قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } الآية . اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الآية . وكانت أيضاً في الجاهلية وابتداء الإسلام بالمحالفة ، قال الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال الله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } . فنسخ ذلك كله وصارت الوراثة بأحد الأمور الثلاثة : بالنسب والنكاح والولاء ، والمعنى بالنسب أن القرابة يرث بعضهم من بعض لقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } والمعنى بالنكاح : أن أحد الزوجين يرث صاحبه ، وبالولاء : أن المعتق وعصباته يرثون المعتق ، فنذكر بعون الله تعالى فصلاً وجيزاً في بيان من يرث من الأقارب ؟ وكيفية توريث الورثة ؟ فنقول : إذا مات ميت وله مال فيبدأ بتجهيزه ، ثم بقضاء ديونه ، ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسم بين الورثة . على ثلاثة أقسام : منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعاً . فمن يرث بالنكاح لا يرث إلا بالفرض ، ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب ، أما من يرث بالقرابة فمنهم من يرث بالفرض كالبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم . ومنهم من يرث بالتعصيب كالبنين ، والإخوة ، وبني الأعمام وبنيهم ، ومنهم من يرث بهما كالأب يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد ، فإن كان للميت ابن : فيرث الأب بالفرض السدس ، وإن كان للميت بنت فيرث الأب السدس بالفرض ويأخذ الباقي بعد نصيب البنت بالتعصيب ، وكذلك الجد وصاحب التعصيب من يأخذ جميع المال عند الانفراد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض وجملة الورثة سبعة عشر : عشرة من الرجال وسبع من النساء ، فمن الرجال : الابن ، وابن الابن وإن سفل ، والأب ، والجد أبو الأب وإن علا ، والأخ ، سواء كان لأب وأم أو لأب ، أو لأم ، وابن الأخ للأم ، أو للأب ، وإن سفل ، والعم للأب والأم ، أو للأب . وأبناؤهما وإن سفلوا ، والزوج ومولى العتاق . ومن النساء : البنت ، وبنت الابن وإن سفلت ، والجدة أم الأم وأم الأب ، والأخت ، سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم ، والزوجة ، ومولاة العتاق . وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمات بالغير : الأبوان والولدان ، والزوجان ، لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة . والأسباب التي توجب حرمان الميراث أربعة : اختلاف الدين ، والرق ، والقتل ، وعمى الموت . ونعني باختلاف الدين أن الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب ، أنا عبد العزيز بن احمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الشافعي أنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ) . فأما الكفار فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم ، لأن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } . وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث حتى لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) . وتأوله الآخرون على الإسلام مع الكفر . وأما الكفر فكله ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوراث بين أهل ملتين شتى ، والرقيق لا يرث أحداً ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له لا فرق فيه بين القن ، والمدبر ، والمكاتب ، وأم الولد . والقتل يمنع الميراث عمداً كان أو خطأ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القاتل لا يرث ) .
ونعني بعمى الموت أن المتوارثين إذا عمي موتهما بأن غرقاً في ماء ، أو انهدم عليهما بناء ، فلم يدر أيهما سبق موته فلا يورث أحدهما من الآخر بل ميراث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقيناً بعد موته من ورثته . والسهام المحدودة في الفرائض ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس .
فالنصف فرض ثلاثة : فرض الزوج عند عدم الولد ، وفرض البنت الواحدة للصلب أو لبنت الابن عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم أو للأب إذا لم يكن ولد الأب وأم .
والربع فرض الزوج اثنين : فرض الزوج إذا كان للميت ولد ، وفرض الزوجة إذا لم يكن للميت ولد .
والثمن : فرض الزوجة إذا كان للميت ولد .
والثلثان فرض البنتين للصلب فصاعداً ، ولبنتي الابن فصاعداً عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأختين لأب وأم أو للأب فصاعداً .
والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات ، إلا في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان ، والثانية زوجة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة ، وفرض لاثنين فصاعداً من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ، وفرض الجد مع الإخوة إذ لم يكن في المسألة صاحب فرض ، وكان الثلث خيراً للجد من المقاسمة مع الإخوة . وأما السدس ففرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد ، وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات ، وفرض الجد إذا كان للميت ولد ، ومع الإخوة والأخوات إذا كان في المسألة صاحب فرض ، وكان السدس خيراً للجد من المقاسمة مع الإخوة ، وفرض الجدة والجدات وفرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان أو أنثى ، وفرض بنات الابن إذا كان للميت بنت واحدة للصلب تكملة للثلثين ، وفرض الأخوات للأب إذا كان للميت أخت واحدة لأب وأم تكملة الثلثين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أنا وهب بن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولي رجل ذكر ) . وفي الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض .
والحجب نوعان : حجب نقصان وحجب حرمان . فأما حجب النقصان فهو أن الولد أو ولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع ، والزوجة من الربع إلى الثمن ، والأم من الثلث إلى السدس ، وكذلك الاثنان فصاعداً من الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس .
وحجب الحرمان هو أن الأم تسقط الجدات كلهن ، وأولاد الأم وهم : الإخوة والأخوات للأم يسقطون بأربعة : بالأب ، والجد وإن علا ، وبالولد ، وولد الابن وإن سفل ، وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة : بالأب ، والابن ، وابن الابن وإن سفلوا . ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله . وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة ، وبالأخ للأب والأم . وذهب قوم إلى أن الإخوة جميعاً يسقطون بالجد كما يسقطون بالأب ، وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وطاووس وأبو حنيفة رحمهم الله . وأقرب العصبات يسقط الأبعد من العصوبة ، وأقربهم : الابن ، ثم ابن الابن وإن سفل ، ثم الأب ، ثم الجد أبو الأب وإن علا ، فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث ، فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ، ثم الأخ للأب ، ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى ، ثم العم للأب والأم ، ثم العم للأب ، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ، ثم عم الأب ، ثم عم الجد على هذا الترتيب . فإن لم يكن أحد من عصبات النسب وعلى الميت ولاء فالميراث للمعتق ، فإن لم يكن حياً فلعصبات المعتق .
وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن ، وابن الابن ، والأخ للأب والأم ، والأخ للأب حتى لو ماتت عن ابن وبنت ، أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب فإنه يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا يفرض للبنت والأخت . وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئاً حتى لو مات عن بنتين وبنت الابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن ، فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين . والأخت للأب والأم وللأب تكون عصبة مع البنت ، حتى لو مات عن بنت وأخت كان النصف للبنت والباقي للأخت ، فلو مات عن بنتين وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت . والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أنا أبو قيس قال : سمعت هزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأخت فقال : للبنت النصف ، وللأخت النصف ، وائت ابن مسعود ، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم : للبنت الصنف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . رجعنا إلى تفسير الآية . واختلفوا في سبب نزولها . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل . أخبرنا أبو الوليد أنا شعبة عن محمد بن المنكدر : قال سمعت جابراً يقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت : يا رسول الله لمن الميراث ؟ إنما يرثني كلالة . فنزلت آية الفرائض . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته . وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وبنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد وإن سعدا قتل يوم أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ولا تنكحان إلا ولهما مال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك . فنزل { يوصيكم الله } إلى آخرها . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما فقال له : أعط ابنتي سعد الثلثين . وأمهما الثمن . وما بقي فهو لك ، فهو أول ميراث قسم في الإسلام . قوله عز وجل : { يوصيكم الله في أولادكم } أي : يعهد إليكم ويفرض عليكم ( في أولادكم ) أي : في أمر أولادكم إذا متم . { للذكر مثل حظ الأنثيين } .
قوله تعالى : { فإن كن } . يعني : المتروكات من الأولاد .
قوله تعالى : { نساءً فوق اثنتين } . أي : اثنتين فصاعداً " فوق " صلة ، كقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } .
قوله تعالى : { فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت } . يعني : البنت .
قوله تعالى : { واحدة } . قراءة العامة على خبر كان ورفعها أهل المدينة على معنى إن وقعت واحدة .
قوله تعالى : { فلها النصف ولأبويه } . يعني لأبوي الميت كناية عن غير مذكور .
قوله تعالى : { لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } . أراد أن الأب والأم يكون لكل واحد منهما سدس الميراث عند وجود الولد أو ولد الابن والأب يكون صاحب فرض .
قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } . قرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة استقلالاً للضمة بعد الكسرة ، وقرأ الآخرون بالضم على الأصل .
قوله تعالى : { فإن كان له إخوة } . اثنان أو أكثر ذكوراً أو إناثاً .
قوله تعالى : { فلأمه السدس } . والباقي يكون للأب إن كان معها أب والإخوة لا ميراث لهم مع الأب ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلا أن يكونوا ثلاثةً لأن الله تعالى قال : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } . ولا يقال للاثنين إخوة . فنقول : اسم الجمع قد يقع على التثنية لأن الجمع ضم شيء إلى شيء وهو موجود في الاثنين كما قال الله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } ذكر القلب بلفظ الجمع وأضافه إلى اثنين .
قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر { يوصى } بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله ، وكذلك الثانية ، ووافق حفص في الثانية . وقرأ الآخرون بكسر الصاد لأنه جرى ذكر الميت من قبل بدليل قوله تعالى : { يوصين } و{ توصون } . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية ، وهذا إجماع أن الدين مقدم على الوصية ، ومعنى الآية : الجمع لا الترتيب وبيان أن الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعاً من بعد وصية إن كانت أو دين إن كان ، والإرث مؤخر عن كل واحد منهما .
قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم } . يعني الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم .
قوله تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } . أي : لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم وقد دبرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه . وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة والله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم .
قوله تعالى : { فريضةً من الله } . أي : ما قدر الله من المواريث .
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }
هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها . فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري " ألْحِقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر " - مشتملات على جل أحكام الفرائض ، بل على جميعها كما سترى ذلك ، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك . لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس ، مع إجماع العلماء على ذلك .
فقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أي : أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم ، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية ، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد ، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فالأولاد عند والديهم موصى بهم ، فإما أن يقوموا بتلك الوصية ، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب .
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين ، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم ، عليهم .
ثم ذكر كيفية إرثهم فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي : الأولاد للصلب ، والأولاد للابن ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، إن لم يكن معهم صاحب فرض ، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك ، وقد أجمع العلماء على ذلك ، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم . وليس لأولاد الابن شيء ، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا ، هذا مع اجتماع الذكور والإناث . وهنا حالتان : انفراد الذكور ، وسيأتي حكمها . وانفراد الإناث ، وقد ذكره بقوله : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي : بنات صلب أو بنات ابن ، ثلاثا فأكثر { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة } أي : بنتا أو بنت ابن { فَلَهَا النِّصْفُ } وهذا إجماع .
بقي أن يقال : من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك ؟
فالجواب أنه يستفاد من قوله : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة ، انتقل الفرض عن النصف ، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان . وأيضا فقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إذا خلَّف ابنًا وبنتًا ، فإن الابن له الثلثان ، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين ، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين .
وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها ، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى .
وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } نص في الأختين الثنتين .
فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى . وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح .
بقي أن يقال : فما الفائدة في قوله : { فَوْقَ اثْنَتَيْن } ؟ . قيل : الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا . ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة ، وبنت ابن أو بنات ابن ، فإن لبنت الصلب النصف ، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس ، فيعطى بنت الابن ، أو بنات الابن ، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين .
ومثل ذلك بنت الابن ، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها .
وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين ، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين ، وقد تم . فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين ، وهو خلاف النص .
وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد .
ودل قوله : { مِمَّا تَرَكَ } أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك ، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته ، وحتى الديون التي في الذمم{[186]}
ثم ذكر ميراث الأبوين فقال : { وَلِأَبَوَيْهِ } أي : أبوه وأمه { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أي : ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى ، واحدًا أو متعددًا .
فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد .
وأما الأب فمع الذكور منهم ، لا يستحق أزيد من السدس ، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب . وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا ، والباقي تعصيبًا ، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر ، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما .
{ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي : والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة ، ثم قدر نصيب الأُم ، فدل ذلك على أن الباقي للأب .
وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له ، بل يرث تعصيبا المال كله ، أو ما أبقت الفروض ، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه ، ثم تأخذ الأُم ثلث الباقي والأب الباقي .
وقد دل على ذلك قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي : ثلث ما ورثه الأبوان . وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب ، وإما ربع في زوجة وأم وأب . فلم تدل الآية على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال : إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا .
ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء ، فيكون من رأس المال ، والباقي بين الأبوين .
ولأنا لو أعطينا الأُم ثلث المال ، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج ، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس ، وهذا لا نظير له ، فإن المعهود مساواتها للأب ، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم .
{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكورًا كانوا أو إناثًا ، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [ لكن قد يقال : ليس ظاهرُ قوله : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف ، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون . ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال ، وهو معدوم ، والله أعلم ]{[187]} ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر ، ويشكل على ذلك إتيان لفظ " الإخوة " بلفظ الجمع . وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد ، لا الجمع ، ويصدق ذلك باثنين .
وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان ، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وقال في الإخوة للأُم : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع . فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة ، كان للأُم السدس ، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث ، مع حجب الأب إياهم [ إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب ]{[188]} .
ثم قال تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي : هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين ، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته ، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة .
وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها ، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة ، وإلا فالديون مقدمة عليها ، وتكون من رأس المال .
وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث . وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة ، قال تعالى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا }
فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم ، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن ، في كل زمان ومكان . فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم ، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية .
{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا ، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال .
وبعد أن بين - ما يجب على الرجال نحو النساء من إعطائهن حقوقهن ، وما يجب على الجميع نحو اليتامى من إكرامهم والمحافظة على أموالهم . . . . بعد أن بين - سبحانه - ذلك ، شرع فى بيان حقوق أكثر الوارثين ، بعد أن أجملها فى قوله - تعالى - { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } فقال - تعالى : { يُوصِيكُمُ الله . . . . عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 11 ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 ) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 14 )
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لقوله - تعالى - { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } الآية :
" هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التى هى خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض . وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة فى ذلك مما هو كالتفسير لذلك . وقد ورد الترغيب فى تعلم الفرائض فقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العلم ثلاث وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة - أى غير منسوخة - أو سنة قائمة - أى ثابتة - أو فريضه عادلة - أى عادلة فى فسمتها بين أصحابها - " .
وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا الفرائض وعلموه الناس ؛ فإنه نصف العلم . وهو أول شئ ينسى . . وهو أول شئ ينزع من أمتى " .
ثم قال ابن كثير : وقال البخارى عن تفسير هذه الآية : عن جابر بن عبد الله قال : عادنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فى بنى سلمة ماشيين فوجدنى النبى صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا . فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش على فأفقت . فقلت : يا رسول الله ما تأمرنى أن أصنع فى مالى ؟ فنزلت { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } الآية .
وفى حديث آخر رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه عن جابر قال : " جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ! هاتان ابنتا سعد بن الربيع . قتل أبوهما معك يوم احد شهيدا . وان عمها أخذ مالها فلم يدع لهما مالا . ولا تنكحان إلا ولهما مقال . فقال صلى الله عليه وسلم : " يقضى الله فى ذلك " فنزلت آية الميراث . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمها فقال صلى الله عليه وسلم : أعط ابنتى سعد الثلثين ، وأمهما الثمني ، وما بقى فهو لك " .
ثم قال ابن كثير : والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتى ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات ، وإنما كان يورث كلالة . والحديث الثانى عن جبار أشبه بنزول هذه الآية . هذا ، وقوله - تعالى - { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } بيان لما إذا مات الميت وترك أولادا من الذكور والإِناث .
وقوله { يُوصِيكُمُ } من الوصية ، وهى - كما يقول الراغب - : التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية أى متصلة البنات ويقال : أوصاه ووصاه .
. . ويقال : تواصى القوم إذا أوصى بعضهم بعضا . . . والمراد بقوله { يُوصِيكُمُ } : أى يأمركم أمرا مؤكدا .
والأولاد : جمع ولد - بوزن فعل مثل أسد - والولد : اسم للمولود ذكرا كان أو أنثى والحظ : النصيب المقدر .
والمعنى : يعهد الله إليكم ويأمركم أمرا مؤكدا فى شأن ميراث أولادكم من بعد موتتكم أن يكون نصيب الذكر منهم فى الميراث نصيب الأنثيين .
وصدر - سبحانه - هذه الأحكام بقوله { يُوصِيكُمُ } اهتماما بشأنها ، وإيذانا بوجوب سرعة الامتثال لمضمونها ، إذ الوصيية من الله - تعالى - إيجاب مؤكد ، بدليل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ } أى أوجب عليكم الانقياد لهذا الحكم إيجاباً مؤكداً .
وحرف { في } هنا للظرفية المجازية ، ومجروها محذوف قام المضاف إليه مقامه ، لأن ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصية ، والتقدير : يوصيكم الله فى توريث أولادكم أو فى شأنهم .
وبدأ - سبحانه - ببيان ميراث الأولاد ، لأنهم أقرب الناس إلى الإِنسان ، ولأن تعلق الإِنسان بأولاده أشد من تعلقه بأى إنسان آخر .
وقوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } جملة مستأنفة لا محل لها من الإِعراب لأنها فى موضع التفصيل والبيان لجملة { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } .
وقد جعل - سبحانه - نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن التكليفات المالية على الأنثى تقل كثيراً عن التكليفات المالية على الذكر ، إذ الرجل مكلف بالنفقة على نفسه وعلى أولاده وعلى زوجته وعلى كل من يعولهم بينما المرأة نصيبها من الميراث لها خاصة لا يشاركها فيه مشارك .
وبهذا يتبين أن الإِسلام قد أكرم المرأة غاية الإِكرام حيث أعطاها هذا النصيب الخاص بها من الميراث بعد أن كانت فى الجاهلية لا ترث شيئاً .
ولم يقل - سبحانه - للذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن الضعف قد يصدق على المثلين فصاعدا ، فلا يكون نصا .
ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر ولا للأنثى نصف حظ الذكر ، لأن المقصود تقديم الذكر لبيان فضله ومزيته على الأنثى .
وعبر بالذكر والأنثى دون الرجال والنساء ، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين فى الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر فى ذلك أصلا ، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال ولا النساء .
وبعد أن بين - سبحانه - كيفية قسمة التركة إذا كان الورثة أولادا ذكورا وإناثا ، عقب ذلك ببيان كيفية تقسيم التركبة إذا كان الورثة من الأولاد الإِناث فقط فقال - تعالى - : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك .
قال الآلوسى : الضمير للأولاد مطلقا ، ولزوم تغليب الإِناث على الذكور لا يضر ، لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له . ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات اللاتى فى ضمن مطلق الأولاد . . والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية .
والمعنى : فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن فلهن ثلثا ما ترك المتوفى .
وهذه الجملة الكريمة قد بينت بالقول الصريح نصيب الأكثر من البنتين وهو الثلثان إلا أنها لم تبين نصيب البنتين بالقول الصريح .
وقد روى عن ابن عباس أنه قال : الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا وأما فرض البنتين فهو النصف . ودليله صريح منطوق الآية ، فقد اشترطت أن أخذ ثلثى التركة للنساء يكون إذا كن فوق اثنتين أى ثلاثا فصاعدا ، وذلك ينفى حصول الثلثين للبنتين .
وقال جمهور العلماء : البنتان لاحقتان بالبنات ، فلهما الثلثان إذا انفردتا عن البنين كما أن البنات لهن الثلثان كذلك .
وقد بسط الفخر الرازى أدلة الجمهور على أن للبنتين الثلثين كالبنات فقال ما ملخصه :
وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان . قالوا : وإنما عرفنا ذلك بوجوه :
أولها : من قوله - تعالى - { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } وذلك لأن من مات وترك غبنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله - تعالى - { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } ، فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين . ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان ، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين .
الثانى : إذا مات وترك إبنا وبنتا فههنا يكون نصيب البنت الثلث بدليل { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث فبأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى وإذا كان للبنت الثلث مع أختها وللأخرى كذلك فقد صار لهما الثلثان .
الثالث : أن قوله - تعالى - { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة ، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك خلاف النص . وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فتقول : وجب أن يكون ذلك هو الثلثان ، لأنه لا قائل بالفرق .
والرابع : أنا ذكرنا فى سبب نزول الآية أنه صلى الله عليه وسلم أعطى بنتى سعد بن الربيع الثلثين ، وذلك يدل على ما قلناه .
الخامس : أنه - سبحانه - ذكر فى هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ولم يذكر حكم الثنتين وذكر فى شرح ميراث الأخوات - فى آخر السورة { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ . . . . فَإِن كَانَتَا اثنتين . . . . مِمَّا تَرَكَ } فهنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين دون الأخوات ، فصارت كل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه ومبينة من وجه فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين .
والوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية . والرابع مأخوذ من السنة .
هذا وقد صح عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجمهور فانعقد الإِجماع على أن للبنتين الثلثين .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا ترك الشخص بنتا واحدة فقال : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } .
أى وإن كانت المولودة أنثى واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أى نصف ما تركه المتوفى .
وإلى هنا تكرن الآية قد ذكرت ثلاث حالات للأولاد فى الميراث :
الأولى : أن يترك الميت ذكوراً وإناثاً . وفى هذه الحالة يكون الميراث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين .
الثانية : أن يترك الميت بنتين فأكثر وليس معهما أخ ذكر : وفى هذه الحالة يكون لهما أولهن الثلثان خلافا لابن عباس فى البنتين - كما سبق أن بينا .
الثالثة : أن يترك الميت بنتا واحدة وليس معها أخر ذكر . وفى هذه الحالة يكون لها النصف .
قال بعض العلماء : هذا توريث الأولاد . ويلاحظ ما يأتى :
أولا : أن نصيب الأولاد إذا كانوا ذكوروا وإناثا إنما يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم . فإذا كان لمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات ، فان القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد أخذ الأب والزوجة نصييبهما .
ثانيا : أن الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه : أى أبناؤه وأبناء أبنائه وبناته وبنات أبنائه . أما أولاد بناته فليسوا من أولاده . وقد خالف فى ذلك الشيعة فلم يفرقوا فى نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون . أى : لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط .
ثالثا : أن أبناء المتوفى وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات أبنه . أى . أن الطبقة الأولى تمنع من يليها :
رابعا : أن بنات الابن يأخذن البنات تماما إذا لم يكن لشخص أولاد قط لا ذكور ولا إناث .
وبعد أن بين - سبحانه - ميراث الأولاد أعقبه ببيان ميراث الأبوين فقال : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس } .
وقد ذكر - سبحانه - هنا ثلاث حالات للأبوين .
أما الحالة الأولى : فيشترك فيها الأب والأم بأن يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للميت ولد . وقد عبر - سبحانه - عن هذه الحالة بقوله : { وَلأَبَوَيْهِ } أى لأبوى الميت ذكرا كان أو أنثى . والضمير فى { أبويه } كناية عن غير مذكور . وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه .
والمراد بالأبوين : الأب والأم . والتثنية على لفظ الأب للتغليب .
وقوله { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } بدل من قوله { وَلأَبَوَيْهِ } بتكرير العامل وهو اللام فى قوله { لِكُلِّ } . وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه .
وقوله { السدس } بيان للنصيب الذى يستحقه كل واحد من الأبوين .
أى : أن لكل واحد من أبوى الميت السدس مما ترك من المال { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أى : إن كان لهذا الميت ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر .
قال القرطبى : فرض الله - تعالى - لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس ، وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء . فان مات رجل وترك أبناء وابوين فلابويه لكل واحد منهم السدس وما بقى فللابن . فان ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان وما بقى فلأقرب عصبة وهو الأب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ، فاجتمع للأب الاستحقاق بجهتين التعصيب والفرض " .
والحالة الثانية : وهى ما إذا مات وورثه أبواه ، وقد بين - سبحانه - حكمها بقوله : { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث } .
أى فإن لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن وورثه أبواه فقط ، ففى هذه الحالة يكون لأم الميت ثلث التركة ، ولأبيه الباقى من التركة وهو الثلثان ، إذ لا وارث له سواهما . فاذا كان معهما أحد الزوجين كان للأم ثلث الباقى بعد نصيب الزوج أو الزوجة وثلثاه للأب وهذا رأى جمهور الصحابة وهو الذى اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الامصار .
أما الحالة الثالثة : وهى ما إذا مات الميت وترك الأبوين ومعهما إخوة أو أخوات فقد بين - سبحانه - حكمها بقوله : فان كان له إخوة فلأمه السدس أى : فان كان للميت إخوة من الأب والأم . أو من الأب فقط ، أو من الأم فقط ذكورا كانوا أو أناثا أو مختلطين ففى هذه الحالة يكون لأم الميت سدس التركة والباقى . للأب ولا ميراث للإِخوة لحجبهم بالأب وبهذا نرى أن إخوة الميت ينقصون الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا محجوبين بالأب .
وإذا شرط الله فى انقاص نصيبها من الثلث إلى السدس الجماعة من الإِخوة علم أن الأخ الواحد لا يحجبها عن الثلث بل يبقى لها الثلث .
أما الأخوان فيرى جمهور الصحابة والعلماء المجتهدين أنهما ينقصانها من الثلث إلى السدس . لأنه قد ورد فى اللغة اطلاق الجمع على الأثنين كما فى قوله - تعالى - { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ولأن الشارع قد جعل الأختين كالثلاث فى الميراث . وكذلك جعل البنتين كالثلاث . ولا فرق بين الذكور والاناث .
ويروى عن ابن عباس أن الاخوين لا ينقصان الأم من الثلث إلى السدس فشأنهما شأن الأخ الواحد لأن الله - تعالى - قال { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } بصيغة الجمع ، والجمع أقله ثلاث بخلاف التثنية . والعمل على ما ذهب إليه الجمهور .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة بد بينت ميراث الأولاد والأبوين . ثم عقبت ذلك ببيان الوقت الذى تدفع فيه هذه الأموال إلى مستحقيها من الورثة فقالت : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } .
أى هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصى بها الميت إلى الثلث . ومن بعد قضاء دين على الميت .
فالجملة الكريمة متعلقة بما تقدم قبلها من قسمة المواريث ؛ فكأنه قال : قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها الميت ومن بعد قضاء دين عليه .
ثم بين - سبحانه - حكمة هذا التقسيم وأكد وجوب تنفيذه فقال : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
قال الآلوسى : الخطاب للورثة . وقوله { آبَآؤُكُمْ } معطوف عليه . وقوله { وَأَبناؤُكُمْ } مع ما فى حيزه خبر له . وأىّ ما استفهامية مبتدأ . وقوله { أَقْرَبُ } خبره والفعل معلق عنها فهى سادة مسد المفعولين . واما موصولة ، قوله { أَقْرَبُ } خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول . وأيهم مفعول أول مبنى على الضم لإِضافته وحذف صدر صلته . والمفعول الثاني محذوف . وقوله { نَفْعاً } نصب على التميز وهو منقول من الفاعلية . وجملة { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية .
والمعنى أن الله - تعالى - قد فرض لكم هذه الفرائض ؛ وقسم بينكم الميراث هذا التقسيم العادل فعليكم أن تلتزموا بتنفيذ قسمة الله التى قسمها لكم ، ولا يصح لكم أن تحكموا أهواءكم فى أموالكم ، فإنكم لا تعلمون من أنفع لكم من أصولكم وفروعكم فى دنياكم وآخرتكم .
وقد صدر - سبحانه الجملة الكريمة بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم ، ومع ذلك لا يدرون النافع مهم ، لأن الله - تعالى - وحده هو العليم بأحوال عباده ، وبما تسره وتعلنه نفوسهم .
ثم أكد الله - تعالى - وجوب الانقياد لما شرعه لهم فى شأن المواريث بتأكيدين :
أولهما : قوله - تعالى - { فَرِيضَةً مِّنَ الله } .
أى : فرض الله ذلك التقسيم لميراث فريضة ، وقدره تقديرا فلا يجوز لكم أن تخالفوه ، لأنه تقدير الله وقسمته ، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله وشرعه .
وقوله { فَرِيضَةً } منصوب على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، على حد قولهم ؛ هذا ابنى حقا ، لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره ، فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا . أى فرض ذلك فريضة من الله .
وأما التأكيد الثاني : فهو قوله - تعالى - : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أى إن الله - تعالى - كان عليما بما يصلح أمر العباد فى دنياهم وآخرتهم ، حكيما فيما قضى وقدر من شئون وتشريعات ، فعليكم أن تقفوا عندما قضى وشرع لتفوزوا بمثوبته ورعايته ورضاه .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : ومناسبة هذا الكلام هنا أنه - تعالى - لما ذكر أنصباء الأولاد والأبوين ، وكانت تلك الأنصباء مختلفة .
. والإِنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه لكانت أنفع له وأصلح ، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث مخالفة لما جاءت به الإِسلام . لما كان الأمر كذلك أزال الله هذه الشهبة بأن قال : إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربما اعتقدتم فى شئ أنه صالح لكم وهو عين المضرة ، وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة وهو عين المصلحة ، وأما الإِله الحكيم الرحيم فهو عالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التى تستحسنها عقولكم ، وكونوا مطيعين لأمر الله فى هذه التقديرات التى قدرها لكم ، فقوله { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة . وقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } إشارة الى وجوب الانقياد لهذه القسمة التى قدرها الشرع وقضى بها .
والأن نجيء إلى نظام التوارث . حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم ؛ فتدل هذه الوصية على أنه - سبحانه - أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم ؛ كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه ؛ فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم ، وبين الأقرباء وأقاربهم . وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه ، وأن ينفذوا وصيته وحكمه . . وأن هذا هو معنى " الدين " الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا . . كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) . . ثم يأخذ في التفريع ، وتوزيع الأنصبة ، في ظل تلك الحقيقة الكلية ، وفي ظل هذا المبدأ العام . . ويستغرق هذا التفصيل آيتين : أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع ، والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة . ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالا لبعض حالات الكلالة [ وسنعرضها في موضعها ] :
( يوصيكم الله في أولادكم : للذكر مثل حظ الأنثيين . فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك . وإن كانت واحدة فلها النصف . ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد ، وورثه أبواه ، فلأمه الثلث . فإن كان له إخوة فلأمه السدس - من بعد وصية يوصي بها أو دين - آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا . فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما . . ولكم نصف ما ترك أزواجكم - إن لم يكن لهن ولد - فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن - من بعد وصية يوصين بها أو دين - ولهن الربع مما تركتم - إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم - من بعد وصية توصون بها أو دين - وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة ، وله أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين - غير مضار ، وصية من الله ، والله عليم حليم ) . .
هاتان الآيتان ، مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة ، ونصها : ( يستفتونك . قل : الله يفتيكم في الكلالة : إن امرؤ هلك ليس له ولد ، وله أخت ، فلها نصف ما ترك . وهو يرثها - إن لم يكن لها ولد - فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك . وإن كانوا إخوة رجالا ونساء ، فللذكر مثل حظ الأنثيين . يبين الله لكم أن تضلوا ، والله بكل شيء عليم ) . .
هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض - أي علم الميراث - أما التفريعات فقد جاءت السنة ببعضها نصا ، واجتهد الفقهاء في بقيتها تطبيقا على هذه الأصول . وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات فمكانها كتب الفقه - فنكتفي - في ظلال القرآن - بتفسير هذه النصوص ، والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي . .
( يوصيكم الله في أولادكم : للذكر مثل حظ الأنثيين . . ) . .
وهذا الافتتاح يشير - كما ذكرنا - إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض ، وإلى الجهة التي صدرت منها ، كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد ، فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد . .
وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان . .
إن الله هو الذي يوصي ، وهو الذي يفرض ، وهو الذي يقسم الميراث بين الناس - كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء ، وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة - ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين ، وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم - وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم - وهذا هو الدين . فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده ؛ وليس هناك إسلام ، إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور - جل أو حقر - من مصدر آخر . إنما يكون الشرك أو الكفر ، وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس .
وإن ما يوصي به الله ، ويفرضه ، ويحكم به في حياة الناس - ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم ، وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم - لهو أبر بالناس وأنفع لهم ، مما يقسمونه هم لأنفسهم ، ويختارونه لذرياتهم . . فليس للناس أن يقولوا : إنما نختار لأنفسنا . وإنما نحن أعرف بمصالحنا . . فهذا - فوق أنه باطل - هو في الوقت ذاته توقح ، وتبجح ، وتعالم على الله ، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول !
قال العوفي عن ابن عباس : " [ ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) . . وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض ، للولد الذكر ، والأنثى ، والأبوين ، كرهها الناس - أو بعضهم - وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير . وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ، ولا يجوز الغنيمة ! اسكتوا عن هذا الحديث ، لعل رسول الله [ ص ] ينساه ، أو نقول له فيغير ! فقالوا : يا رسول الله ، تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ، ولا تقاتل القوم . ويعطى الصبي الميراث ، وليس يغني شيئا - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ، ويعطونه الأكبر فالأكبر ] . . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . .
فهذا كان منطق الجاهلية العربية ، الذي كان يحيك في بعض الصدور ؛ وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكيمة . . ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم - وهي تواجه فريضة الله وقسمته - لعله يختلف كثيرا أو قليلا عن منطق الجاهلية العربية . فيقول : كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري ؟ وهذا المنطق كذاك . . كلاهما لا يدرك الحكمة ، ولا يلتزم الأدب ؛ وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب !
وحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث ، فإنهم يأخذون جميع التركة ، على أساس أنللبنت نصيبا واحدا ، وللذكر نصيبين اثنين .
وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس . إنما الأمر أمر توازن وعدل ، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي ، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي : فالرجل يتزوج امرأة ، ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة ، وهي معه ، وهي مطلقة منه . . . أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط ، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء . وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال . . فالرجل مكلف - على الأقل - ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي ، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي . ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم . ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى ، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها حياة .
ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول :
( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ، وإن كانت واحدة فلها النصف ) .
فإذا لم يكن له ذرية ذكور ، وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان . فإن كان له بنت واحدة فلها النصف . . ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له : الأب أو الجد . أو الأخ الشقيق . أو الأخ لأب . أو العم . أو أبناء الأصول . . .
والنص يقول : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) . . وهذا يثبت الثلثين للبنات - إذا كن فوق اثنتين - أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة .
فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر . قال : [ جاءت امرأة سعد بن الربيع ، إلى رسول الله [ ص ] فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا ؛ وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ؛ ولا ينكحان إلا ولهما مال . قال : فقال : " يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث . فأرسل رسول الله [ ص ] إلى عمهما ، فقال : " اعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك " ] . .
فهذه قسمة رسول الله [ ص ] للبنتين بالثلثين . فدل هذا على أن البنتين فأكثر ، لهما الثلثان في هذه الحالة .
وهناك أصل آخر لهذه القسمة ؛ وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين : ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) . . كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى ، قياسا على الأختين . وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة .
وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين - عند وجودهما - في الحالات المختلفة . مع وجود الذرية ومع عدم وجودها :
( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث . فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) .
والأبوان لهما في الإرث أحوال :
الحال الأول : أن يجتمعا مع الأولاد ، فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته : للذكر مثل حظ الأنثيين . فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لهاالنصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس . وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب . أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين ، ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس .
والحال الثاني : ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة ، وينفرد الأبوان بالميراث . فيفرض للأم الثلث ، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب ، فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين . فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف ، أو الزوجة الربع . وأخذت الأم الثلث [ إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية ] وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم .
والحال الثالث : هو اجتماع الأبوين مع الإخوة - سواء كانوا من الأبوين أو من الأب ، أو من الأم - فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ، لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر ؛ ولكنهم - مع هذا - يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس . فيفرض لها معهم السدس فقط . ويأخذ الأب ما تبقى من التركة . إن لم يكن هناك زوج أو زوجة . أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث ، فيفرض لها الثلث معه ، كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة .
ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين :
( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) . .
قال ابن كثير في التفسير : " أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية " . . وتقديم الدين مفهوم واضح . لأنه يتعلق بحق الآخرين . فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان ، ما دام قد ترك مالا ، توفية بحق الدائن ، وتبرئة لذمة المدين . وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين ؛ كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير ، ومن الثقة في المعاملة ، ومن الطمأنينة في جو الجماعة ، فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته ، حتى بعد وفاته :
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رجل : يا رسول الله . أرأيت إن قتلت في سبيل الله ، أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله [ ص ] : " نعم . إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " . ثم قال : " كيف قلت ؟ " فأعاد عليه . فقال : " نعم . إلا الدين . فإن جبريل أخبرني بذلك " . . [ أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي ] .
وعن أبي قتادة كذلك : أتي النبي [ ص ] برجل ليلصلي عليه . فقال [ ص ] : " صلوا على صاحبكم فإن عليه دينا " فقلت : هو علي يا رسول الله . قال : " بالوفاء ؟ " قلت : بالوفاء . فصلى عليه .
وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها . وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضا . وقد يكون المحجوبون معوزين ؛ أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة ؛ وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت . ولا وصية لوارث . ولا وصية في غير الثلث . وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية .
وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد :
( آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا . فريضة من الله . إن الله كان عليما حكيما ) . .
واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض . فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الابناء على الآباء ، لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر . وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء . وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي . . كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل ، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل . . فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله ، ولما يفرضه الله ؛ بإشعارها أن العلم كله لله ؛ وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعا . ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة :
( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) . .
واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية . فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة . إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة :
فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء . والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال . والله هو الذي يفرض ، وهو الذي يقسم ، وهو الذي يشرع . وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ، ولا أن يحكموا هواهم ، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم !
( إن الله كان عليما حكيما ) . .
وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب . تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس - مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره - فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة . فالله يحكم لأنه عليم - وهم لا يعلمون - والله يفرض لأنه حكيم - وهم يتبعون الهوى .
وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث ، لرد الأمر إلى محوره الأصيل . محوره الاعتقادي . الذي يحدد معنى " الدين " فهو الاحتكام إلى الله . وتلقي الفرائض منه . والرضى بحكمه : ( فريضة من الله . إن الله كان عليما حكيما ) . .
{ يوصيكم الله } يأمركم ويعهد إليكم . { في أولادكم } في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله . { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله ، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة ، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به . { فإن كن نساء } أي إن كان الأولاد نساء خلصا ليس معهن ذكر ، الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات . { فوق اثنتين } خبر ثان ، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين . { فلهن ثلثا ما ترك } المتوفى منكم ، ويدل عليه المعنى . { وإن كانت واحدة فلها النصف } أي وإن كانت المولودة واحدة . وقرأ نافع بالرفع على كان التامة ، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة ، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما . وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان ، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان . ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين } ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها . وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى : { فلهما الثلثان مما ترك } . { ولأبويه } ولأبوي الميت . { لكل واحد منهما } بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس ، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا . { السدس مما ترك إن كان له } أي للميت . { ولد } ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة ، وما بقي من ذوي الفروض أيضا بالعصوبة . { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } فحسب . { فلأمه الثلث } مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب ، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب ، وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثا ، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور ، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس ، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب وهو خلاف وضع الشرع . { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } بإطلاقه يدل على أن الإخوة يردونها من الثلث إلى السدس ، وإن كانوا لا يرثون مع الأب . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم ، والجمهور على أن المراد بالأخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإخوة أو من الأخوات ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذا بالظاهر . وقرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها . { من بعد وصية يوصي بها أو دين متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية . أو دين ، وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين ، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد . { آباؤكم وأنباؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به ، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه . روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته . أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته ، أو من لم يوص فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية . { فريضة من الله } مصدر مؤكد ، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم . { إن الله كان عليما } بالمصالح والرتب . { حكيما } فيما قضى وقدر .