اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال ، فأبطل الله عزّ وجلّ ذلك بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } وكانت الوراثة أيضاً في الجاهلية ، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني الحلفاء { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وأعطوهم حظهم من الميراث ، ثم صارت بعد الهجرة ، قال الله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين : بالسبب والنسب ، فأما السبب فهو النكاح والولاء ، وهذا علم عريض لذلك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي " .
ولا يمكن معرفة ذلك إلاّ بمعرفة الورثة والسهام ، وقد أفردت فيه قولا وجيزاً جامعاً كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب .
اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسّم بين الورثة ، والورثة على ثلاثة أقسام :
منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعاً ، فصاحب الفرض : من له سهم معلوم ونصيب مقدّر ، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات ، وصاحب التعصيب : من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض ، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروماً إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء ، مثل الأخ والعم ونحوهما ، والذي يرث بالوجهين : هو الأب مع البنت وبنت الابن ، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس ، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر ، عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق ، ومن النساء سبع : البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق ، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة ، الأبوان والولدان والزوجان .
والعلة في ذلك : أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة ، والذين لا يرثون بحال ستة : العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين ، والسهام المحدودة في كتاب الله عزّ وجلّ ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس .
والنصف فرض خمسة : بنت الصلب ، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب ، والأخت للأب والأم ، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم ، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن .
والربع فرض اثنين : الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن ، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن .
والثمن فرض واحد : الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن .
والثلثان فرض كل اثنين فصاعداً ممّن فرضه النصف .
والثلث فرض ثلاثة : الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلاّ في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان ، والأُخرى امرأة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج ، وهو في الحقيقة سدس جميع المال ، والزوجة وهو ربع جميع المال ، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم واناثهم سواء ، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيراً له من الثلث .
والسدس فرض سبعة : بنت الابن مع بنت الصلب ، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم ، والواحد من ولد الأم ، والأم إذا كان للبنت ولداً ، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات ، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن [ . . . . ] مع الابن وابن الابن ، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا [ . . . ] أخواتهم للذكر مثل حضّ الأُنثيين ، ثم الأب وله ثلاثة أحوال : حال ينفرد بالتعصيب ، وهو مع عدم الولد وولد الابن ، وحال ينفرد بالفرض ، وهو مع الابن أو ابن الابن ، وحال يجمع له الفرض والتعصيب ، وهو مع البنت وابنة الابن ، ثم الجد إن لم يكن له أخوة ، وإن كان له أخوة قاسمهم ، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم ، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والواحدة منهن عصبة مع البنات ، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب ، دون الأناث ، ثم بنو الأخوة للأب والأم ، ثم بنو الأخوة للأب ، ثم الأعمام للأب والأم ، ثم الأعمام للاب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم أعمام الأب كذلك ، ثم أعمام الجد ، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود ، ثم مولى العتق ، ثم عصبته على هذا الترتيب ، فهذه جملة من هذا العلم .
رجعنا إلى تفسير الآية ، اختلف المفسرون في سبب نزولها :
فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : " مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر( رضي الله عنه ) وهما يتمشيان ، فأُغشي عليَّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أمضي في مالي ؟ كيف أصنع في مالي ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فيَّ آية المواريث " .
وقال عطاء : " استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وابنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد ، وإن سعداً قُتل يوم أحد معك شهيداً ، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلاّ ولهما مال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك " فأقامت حيناً ثم عادت وشكت وبكت ، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ } إلى آخرها .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّهما وقال : " أعطِ بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك " ، فهذا أول ميراث قُسّم في الإسلام .
وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة وقد مضت القصة .
وقال السدي : نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر ، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات ، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئاً ، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية المواريث .
وقال ابن عباس : كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله ذلك ، وأنزل آية المواريث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث " وقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ } أي يعهد إليكم ويفرض عليكم { فِي أَوْلاَدِكُمْ } أي في أمر أولادكم إذا متم { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً } يعني المتروكات { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } فصاعداً يعني البنات { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } و( فوق ) صلة ، كقوله عزّ وجلّ :
{ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ } [ الأنفال : 12 ] .
{ وَإِن كَانَتْ } يعني البنت { وَاحِدَةً } .
قرأه العامة : نصب على خبر كان ، ورفعهما أهل المدينة على معنى : إن وقعت واحدة ، وحينئذ لا خبر له .
{ فَلَهَا النِّصْفُ } ثم قال : { وَلأَبَوَيْهِ } يعني لأبوي الميت ، كناية عن غير المذكور { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أو ولدان ، والأب هاهنا صاحب فرض { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } قرأ أهل الكوفة : ( فلأمه ) بكسر الهمزة ، وقرأ الباقون : بالضم على الأصل .
{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } اثنين كانا أو أكثر ذكراناً أو أناثاً { فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } هذا قول عامة الفقهاء ، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة ، وكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقي فللأب ، اتبع ظاهر اللفظ .
وروى : أن ابن عباس دخل على عثمان فقال : لِمَ صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله عزّ وجلّ : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة ؟
فقال عثمان : هل أستطيع نقض أمرٌ قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار . وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به ، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية ، لأن الجمع ضمُّ شيء إلى شيء ، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له ، قال الله تعالى :
{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .
وتقول العرب : ضربت من زيد وعمرو رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما .
لما أتتنا المرأتان بالخبر *** أن الأمر فينا قد شهر
قال الثعلبي : وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي :
ويُحيى بالسلام غني قوم *** ويبخل بالسلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء *** إذا ماتوا وصاروا في القبور
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : ( يوصَى ) بفتح الصاد ، الباقون : بالكسر وكذلك الآخر .
واختلفت الرواية فيهما عن عاصم ، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا ، قال الأخفش : وتصديق الكسر يوصين ويواصون .
{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } .
قال مجاهد : في الدنيا ، وقرأ بعضهم : ( أيهما أقرب لكم نفعاً ) أي رفع بالابتداء ، ولم يعمل فيه ال ( ما ) قبله ، لأنه استفهام و( أقرب ) خبره و( نفعاً ) نصب على التمييز ، كأنه يقول : لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه ، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه .
وقال ابن عباس : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما .
قال الحسن : لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا .
{ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }