الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (11)

{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ } .

فصل في بسط الآية

اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال ، فأبطل الله عزّ وجلّ ذلك بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } وكانت الوراثة أيضاً في الجاهلية ، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني الحلفاء { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وأعطوهم حظهم من الميراث ، ثم صارت بعد الهجرة ، قال الله تعالى :

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين : بالسبب والنسب ، فأما السبب فهو النكاح والولاء ، وهذا علم عريض لذلك .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي " .

ولا يمكن معرفة ذلك إلاّ بمعرفة الورثة والسهام ، وقد أفردت فيه قولا وجيزاً جامعاً كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب .

اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسّم بين الورثة ، والورثة على ثلاثة أقسام :

منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعاً ، فصاحب الفرض : من له سهم معلوم ونصيب مقدّر ، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات ، وصاحب التعصيب : من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض ، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروماً إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء ، مثل الأخ والعم ونحوهما ، والذي يرث بالوجهين : هو الأب مع البنت وبنت الابن ، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس ، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر ، عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق ، ومن النساء سبع : البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق ، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة ، الأبوان والولدان والزوجان .

والعلة في ذلك : أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة ، والذين لا يرثون بحال ستة : العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين ، والسهام المحدودة في كتاب الله عزّ وجلّ ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس .

والنصف فرض خمسة : بنت الصلب ، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب ، والأخت للأب والأم ، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم ، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن .

والربع فرض اثنين : الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن ، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن .

والثمن فرض واحد : الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن .

والثلثان فرض كل اثنين فصاعداً ممّن فرضه النصف .

والثلث فرض ثلاثة : الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلاّ في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان ، والأُخرى امرأة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج ، وهو في الحقيقة سدس جميع المال ، والزوجة وهو ربع جميع المال ، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم واناثهم سواء ، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيراً له من الثلث .

والسدس فرض سبعة : بنت الابن مع بنت الصلب ، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم ، والواحد من ولد الأم ، والأم إذا كان للبنت ولداً ، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات ، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن [ . . . . ] مع الابن وابن الابن ، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا [ . . . ] أخواتهم للذكر مثل حضّ الأُنثيين ، ثم الأب وله ثلاثة أحوال : حال ينفرد بالتعصيب ، وهو مع عدم الولد وولد الابن ، وحال ينفرد بالفرض ، وهو مع الابن أو ابن الابن ، وحال يجمع له الفرض والتعصيب ، وهو مع البنت وابنة الابن ، ثم الجد إن لم يكن له أخوة ، وإن كان له أخوة قاسمهم ، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم ، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والواحدة منهن عصبة مع البنات ، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب ، دون الأناث ، ثم بنو الأخوة للأب والأم ، ثم بنو الأخوة للأب ، ثم الأعمام للأب والأم ، ثم الأعمام للاب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم أعمام الأب كذلك ، ثم أعمام الجد ، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود ، ثم مولى العتق ، ثم عصبته على هذا الترتيب ، فهذه جملة من هذا العلم .

رجعنا إلى تفسير الآية ، اختلف المفسرون في سبب نزولها :

فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : " مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر( رضي الله عنه ) وهما يتمشيان ، فأُغشي عليَّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أمضي في مالي ؟ كيف أصنع في مالي ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فيَّ آية المواريث " .

وقال عطاء : " استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وابنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد ، وإن سعداً قُتل يوم أحد معك شهيداً ، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلاّ ولهما مال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك " فأقامت حيناً ثم عادت وشكت وبكت ، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ } إلى آخرها .

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّهما وقال : " أعطِ بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك " ، فهذا أول ميراث قُسّم في الإسلام .

وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة وقد مضت القصة .

وقال السدي : نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر ، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات ، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئاً ، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية المواريث .

وقال ابن عباس : كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله ذلك ، وأنزل آية المواريث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث " وقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ } أي يعهد إليكم ويفرض عليكم { فِي أَوْلاَدِكُمْ } أي في أمر أولادكم إذا متم { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً } يعني المتروكات { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } فصاعداً يعني البنات { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } و( فوق ) صلة ، كقوله عزّ وجلّ :

{ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ } [ الأنفال : 12 ] .

{ وَإِن كَانَتْ } يعني البنت { وَاحِدَةً } .

قرأه العامة : نصب على خبر كان ، ورفعهما أهل المدينة على معنى : إن وقعت واحدة ، وحينئذ لا خبر له .

{ فَلَهَا النِّصْفُ } ثم قال : { وَلأَبَوَيْهِ } يعني لأبوي الميت ، كناية عن غير المذكور { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أو ولدان ، والأب هاهنا صاحب فرض { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } قرأ أهل الكوفة : ( فلأمه ) بكسر الهمزة ، وقرأ الباقون : بالضم على الأصل .

{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } اثنين كانا أو أكثر ذكراناً أو أناثاً { فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } هذا قول عامة الفقهاء ، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة ، وكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقي فللأب ، اتبع ظاهر اللفظ .

وروى : أن ابن عباس دخل على عثمان فقال : لِمَ صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله عزّ وجلّ : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة ؟

فقال عثمان : هل أستطيع نقض أمرٌ قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار . وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به ، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية ، لأن الجمع ضمُّ شيء إلى شيء ، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له ، قال الله تعالى :

{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .

وتقول العرب : ضربت من زيد وعمرو رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما .

وأنشد الأخفش :

لما أتتنا المرأتان بالخبر *** أن الأمر فينا قد شهر

قال الثعلبي : وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي :

ويُحيى بالسلام غني قوم *** ويبخل بالسلام على الفقير

أليس الموت بينهما سواء *** إذا ماتوا وصاروا في القبور

{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : ( يوصَى ) بفتح الصاد ، الباقون : بالكسر وكذلك الآخر .

واختلفت الرواية فيهما عن عاصم ، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا ، قال الأخفش : وتصديق الكسر يوصين ويواصون .

{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } .

قال مجاهد : في الدنيا ، وقرأ بعضهم : ( أيهما أقرب لكم نفعاً ) أي رفع بالابتداء ، ولم يعمل فيه ال ( ما ) قبله ، لأنه استفهام و( أقرب ) خبره و( نفعاً ) نصب على التمييز ، كأنه يقول : لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه ، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه .

وقال ابن عباس : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما .

قال الحسن : لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا .

{ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }