غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (11)

11

التفسير : إنه تعالى لما بين حكم مال الأيتام وما على الأولياء فيه ، بيَّن أن اليتيم كيف يملك المال إرثاً ولم يكن ذلك إلا بيان جملة أحكام الميراث . أو نقول : أجمل حكم الميراث في قوله : { للرجال نصيب } و { للنساء نصيب } ثم فصل ذلك بقوله { يوصيكم الله } أي يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم . واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين : النسب والعهد . أما النسب فكانوا يورثون الكبار به ولا يورثون الصغار والإناث كما مر ، وأما العهد فالحلف أو التبني كما سيجيء في تفسير قوله :{ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم }[ النساء :33 ] وكان التوريث بالعهد مقرر في أول الإسلام مع زيادة سببين آخرين : أحدهما الهجرة .

فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبياً عنه إذا كان بينهما مزيد مخالطة ومخالصة ، ولا يرثه غيره وإن كان من أقاربه . والثاني المؤاخاة . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم فيكون سبباً للتوارث . والذي تقرر عليه الأمر في الإسلام إن أسباب التوريث ثلاثة : قرابة ونكاح وولاء . والمراد من الولاء أن المعتق يرث بالعصوبة من المعتق . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث بنت حمزة من مولى لها . ووراء هذه الأسباب سبب عام وهو الإسلام ، فمن مات ولم يخلف من يرثه بالأسباب الثلاثة فماله لبيت المال يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون عنه الدية . قال صلى الله عليه وسلم : " أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه " وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثاً ، لأنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه . وإنما بدأ سبحانه بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات ، ثم للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع أبوي الميت . أما حال الانفراد فثلاث ذكور وإناث معاً ، أو إناث فقط ، أو ذكور فقط . أما الحالة الأولى فبيانها قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي للذكر منهم ، فحذف الراجع للعلم به وفيه أحكام ثلاثة : أحدها : خلف ذكراً واحداً وأنثى واحدة فله سهمان ولها واحد . وثانيها : خلف ذكوراً وإناثاً لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم . وثالثها : خلف مع الأولاد جمعاً آخرين كالزوجين ، فهم يأخذون سهامهم والباقي بين الأولاد لكل ذكر مثل نصيب أنثيين . وإنما لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر إشعاراً بفضيلته كما ضوعف حظه لذلك ، ولأن الابتداء بما ينبئ عن فضل أحد أدخل في الأدب من الابتداء بما ينبئ عن النقص ، ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث فكأنه قيل لهم : كفى الذكور تضعيف من النصيب ، فيقطعوا الطمع عن الزيادة . وأما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب النساء من المال أقل من نصيب الرجال ، فلنقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الحديث ، ولأن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن ، أو لكثرة الشهوة فيهن فقد يصير المال سبباً لزيادة فجورهن كما قيل :

إن الشباب والفراغ والجده *** مفسدة للمرء أي مفسده .

فيكف حال المرأة ؟ وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها ، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ، ثم أخذت حفنة أخرى ورفعتها إلى آدم . فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل . وأما الحالة الثانية فهن أكثر من اثنتين أو اثنتان أو واحدة . وحكم القسم الأول مبين في قوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } وحكم القسم الثالث في قوله : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فمن قرأ بالرفع على " كان " التامة فظاهر ، ومن قرأ بالنصب فالضمير في كانت إما أن يعود إلى النساء وجاز لعدم الإلباس بدليل واحدة ، وإما أن يعود إلى غائب حكمي أي إن كانت البنت أو المولودة .

وقراءة النصب أوفق لقوله : { فإن كن نساء } وقراءة الرفع أيضاً حسنة لئلا يحتاج إلى التكلف في عود الضمير . وجوّز صاحب الكشاف أن يكون الضمير في { كن } و { كانت } مبهمة وتكون { نساء } و { واحدة } تفسيراً لهما على أن " كان " تامة . وأما القسم الثاني وهو حكم البنتين فغير مذكور في الآية صريحاً فلهذا اختلف العلماء فيه . فعن ابن عباس أن فرضهما النصف كما في الواحدة ، لأن الثلثين فرض البنات بشرط كونهن فوق اثنتين ، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط . وعورض بأن النصف أيضاً مشروط بالوحدة . أقول : ولعله نظر إلى أن الاثنتين أقرب إلى الواحد من الأعداد الغير المحصورة التي فوق الإثنتين سوى الثلاثة ، والحمل على الأقرب أولى . وقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم : إن فرضهما الثلثان لأن من مات وخلف ابناً وبنتاً فللبنت الثلث بالآية ، فيلزم أن يكون للبنتين الثلثان . وأيضاً نصيب البنت مع الولد الذكر الثلث ، فلأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى . وعلى هذا فكان قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } دالاً على أنثيين ، فذكر بعد ذلك أنهم وإن بلغن ما بلغن من العدد لم يتجاوز الثلثين . وقيل : إن البنتين أمس رحماً بالميت من الأختين ، لكنه تعالى يقول في آخر السورة { فإن كانت اثنتين فلهما الثلثان } فالبنتان أولى وهذا قياس جلي ، ومما يؤيده أنه تعالى لم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ليقاس ميراثهن على ميراث البنات الكثيرة كما يقاس ميراث البنتين على الأختين . وقيل : لفظ { فوق } وهو صفة نساء أو خبر بعد خبر للتأكيد ، أو ليخرج أقل الجمع وهو اثنان زائد كقوله :{ فاضربوا فوق الأعناق }[ الأنفال :12 ] وقيل : فيه تقديم وتأخير والمراد : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما . وعن جابر بن عبد الله قال : جاءت امرأة بابنتين لها فقالت : يا رسول الله ، هاتان بنتا ثابت بن قيس ، أو قالت : سعد بن الربيع ، قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما . فقال : يقضي الله في ذلك ونزلت هذه الآية . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادع لي المرأة وصاحبها " . فقال لعمهما : أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك .

وأما الحالة الثالثة وهو ما إذا كان الأولاد ذكوراً فقط فلم يذكر في الآية ، لأنه لما علم أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقد تبين أن للبنت الواحدة النصف ، علم منه أن للابن الواحد الكل ، وإذا كان للواحد الكل ، فإذا كانوا أكثر من واحد لم يحسن حرمان بعضهم ولا ترجيح بعضهم فيكون المال مشتركاً بينهم بالسوية .

وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم : " وما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر " ولا نزاع في أن الابن عصبة ذكر ، فإذا لم يكن معه صاحب فرض فله كل المال لا محالة . والنص : سألت عن ولد الولد فقيل : اسم الولد يقع على ولد الابن أيضاً لقوله تعالى :{ يا بني آدم }[ الأعراف :31 ]{ يا بني إسرائيل }[ البقرة :40 ، 47 ، 122 وغيرها من الآيات ] . وقيل : قيس ولد الولد على الولد لما أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب ، ولكنه لا يستحق شيئاً مع أولاد الصلب على وجه الشركة ، وإنما يستحق إذا لم يوجد ولد الصلب رأساً ، أو لا يأخذ كما في مسألة بنت واحدة وبنت ابن فإنهما يأخذان الثلثين . واعلم أن عموم قوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } مخصوص بصور منها : أن العبد والحر لا يتوارثان . ومنها أن القاتل لا يرث . ومنها أن لا يتوارث أهل ملتين والمرتد ماله فيء لبيت المال سوءا اكتسب في الإسلام أو في الردة . وعند أبي حنيفة : ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون . ومنها أن الأنبياء لا يورثون خلافاً للشيعة . روي أن فاطمة رضي الله عنها لما طلب الميراث احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " واحتجت بقوله تعالى حكاية عن زكريا { يرثني ويرث من آل يعقوب }[ مريم :6 ] وبقوله :{ وورث سليمان داود }[ النمل :16 ] ، والأصل في التوريث للمال ، ووراثة العلم أو الدين مجاز . وبعموم قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } ولأن المحتاج إلى هذه المسألة ما كان إلا علياً وفاطمة والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء في الدين . وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان يخطر بباله أنه يرث الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة ؟ وأيضاً يحتمل أن يكون قوله : " ما تركناه صدقة " صلة لقوله : " لا نورث " والمراد أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث ولعل فائدة تخصيص الأنبياء بذلك أنهم إذا عزموا على التصدق بشيء فمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم فلا يرثه وارثهم عنهم . أجابوا بأن فاطمة رضي الله عنها رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الإجماع على ما ذهب إليه أبو بكر . واعلم أن جميع ما ذكرنا إنما هو في حالة انفراد الأولاد ، أما حالة اجتماعهم بالأبوين فذلك قوله : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } والمراد بالأبوين الأب والأم .

فغلب جانب الأب لشرفه ، ومثله من التغليب في التثنية " القمران " و " العمران " و " الخافقان " . والضمير في { أبويه } يعود إلى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث و { لكل واحد منهما } بدل من { لأبويه } بتكرير العامل . وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس لأوهم اشتراكهما فيه . ولو قيل : ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالتساوي أو بالتفاوت . ولو قيل : ولكل واحد من أبويه السدس لفاتت فائدة الإجمال والتفصيل والإبهام والتفسير . فقوله : { السدس } مبتدأ وخبره { لأبويه } وقد توسط البدل بينهما للبيان . واعلم أن للأبوين ثلاث أحوال : الأولى أن يحصل معهما ولد ولا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر وعلى الأنثى فههنا ثلاثة أوجه : أحدها أن يحصل معهما ولد ذكر واحد أو أكثر فللأبوين لكل واحد منهما السدس . والباقي للأولاد بالسوية . وثانيها أن يحصل معهما بنتان أو أكثر ، فالحكم كما ذكر . وثالثها أن يكون معهما بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم الآية ، والباقي للأب بحكم التعصيب . فإن قيل : إن حق الوالدين على الولد مما لا يخفى فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل ؟ فالجواب - والله أعلم - أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل غالباً ، أما الأولاد فهم في زمان الصبا فاحتياجهم إلى المال أكثر وأيضاً كأنهما قالا بلسان الحال للأطفال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً . وأيضاً ولد الولد ولد ، وترفيه حال الولد أهم عند الوالدين من ترفيه حالهما . الحالة الثانية أن لا يكون معهما أحد من الأولاد ولا وارث سواهما وهو المراد بقوله : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } أي فقط { فلأمه الثلث } ويعلم منه أن الباقي يكون للأب فيكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، ويحصل للأب السدس بالفرضية ، والنصف بالعصوبة ، ولأنه تعالى قيد فرضية الثلث للأم بأن يكون الوارث منحصراُ في الأبوين اختلف العلماء في أنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فكيف يكون فرض الأم ؟ فقال ابن عباس : يدفع إلى الزوج نصيبه أو إلى الزوجة نصيبها ، وللأم الثلث بحالة والباقي للأب . وذهب الأكثرون إلى أن الزوج أو الزوجة لهما نصيبهما ، ثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم والباقي للأب ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذكر والأنثى ، فيكون الأبوان كشريكين بينهما مال ، فإذا صار شيء منه مستحقاً بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأوّل . وأيضاً الزوج إنما يأخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي . وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين .

فإنا إذا دفعنا الربع إلى الزوجة ، والثلث إلى الأم بقي للأب الثلث ونصف السدس أكثر ما للأم ، وخالفه في الزوج والأبوين لأنه إذا دفع إلى الزوج النصف وإلى الأم الثلث يبقى للأب السدس فيكون للأنثى مثل حظ الذكرين . هذا عكس قوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } الحالة الثالثة أن يوجد معها الإخوة والأخوات وذلك قوله : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } واتفقوا على أن واحداً من الإخوة أو الأخوات لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس ، واتفقوا على أن ثلاثة منهم يحجبون لكن الاثنين مختلف فيهما . فالأكثرون من الصحابة ذهبوا إلى إثبات الحجب بهما كما في الثلاثة بناء على أن الاثنين جمع لوجود التعدد في التثنية فما فوقها ، فصح أن يتناول الإخوة للأخوين واستقراء باب الميراث يؤيد ذلك ، فإنه جعل نصيب البنتين الثلثين مثل نصيب البنات وكذلك للأختين والأخوات . وذكر الشيخ الكامل محيي الدين بن العربي في الفتوحات أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن خلاف الأئمة في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة ، فعلمه أن أقل الجمع في الشفع اثنان وفي الوتر ثلاثة . وقال صلى الله عليه وسلم : " الاثنان فما فوقهما جماعة " وقد احتج ابن عباس بذلك على عثمان فقال : كيف تردّها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان . فأشار إلى إجماعهم قبل أن يظهر ابن عباس الخلاف . ثم إن الاثنين أو الثلاثة إذا حجبوا الأم عن السدس ، فذلك السدس يكون لهم حتى يبقى للأب الثلثان ، أو لا يكون لهم شيء من الميراث ويكون خمسة الأسداس للأب . ذهب ابن عباس إلى الأوّل ، وذهب الجمهور إلى الثاني إذ لا يلزم من كون الشخص حاجباً كونه وارثاً ولم يرد لهم ذكر إلا بالحجب فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين . ثم ذكر أن هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء من بعد وصية يوصى بها أو دين . حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق . وإذا لم يكن أو كان لكنه قضى وفضل بعده شيء . فإن أوصى الميت وصية أخرجت من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله تعالى . عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : إنكم لتقرءون الوصية قبل الدين وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية . والمراد أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر لأن كلمة أولاً تفيد الترتيب ألبتة ، وإنما استفيد الترتيب من السنة عكس الترتيب في اللفظ . وفائدة هذا العكس أن الوصية تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، فكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين ، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فكان في تقديمها ترغيب لهم في أدائها ، ولهذا جيء بكلمة أو دلالة على التسوية بينهما في الوجوب ، ولأن كل مال ليس يحصل فيه الأمران فجيء بأو الفاصلة ليدل على أنه إن كان أحدهما فالميراث بعده ، وكذلك إن كان كلاهما فالوصية تشبه الدين من جهة أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد كل منهما .

ولكنها تفارق الدين من جهة أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية كما في الإرث بخلاف الدين فإنه يبقى بحاله .

ثم قال : { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } قال أبو البقاء { أيهم } مبتدأ و { أقرب } خبره ، والجملة في موضع نصب ب { تدرون } وهي معلقة عن العمل لفظاً لأنها من أفعال القلوب . وأقول : من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة ، وكان { أيهم } مفعوله مبنياً لحذف صدر الصلة نحو { لننزعن من كل شيعة أيهم أشد }[ مريم :69 ] قال المفسرون : هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم ، وبين قوله : { فريضة من الله } ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده . فقيل : هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أم أوصى منهم أم من لم يوص . يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانٍ فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى . وقيل : عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع . وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه . فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعة في الجنة بهذا أكثر أم بذلك . وقيل : قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات . فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها . وقيل : المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه ، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن . وقيل : المقصود جواز أن يموت هذا قبل : ذلك فيرثه وبالضد ، والقول هو الأوّل . { فريضة من الله } نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضاً { إن الله كان عليماً } بكل المعلومات فيكون عالماً بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد { حكيماً } لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح .

قال الخليل : " كان " ههنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان ، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم . وقال سيبويه : إن القوم لما شاهدوا علماً وحكمة تعجبوا فقيل لهم : إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفاً بهذه الصفات . هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلاً بالميت بغير واسطة أو بواسطة . وعلى الأول فسبب الاتصال إما أن يكون هو النسب أو الزوجية . فهذه ثلاثة أقسام : الأوّل قرابة التوالد الفروع والأصول وهو أشرف الاتصالات لعدم الواسطة ولكثرة المخالطة ولغاية الألفة والشفقة ، ولهذا قدّم في الذكر .

/خ22