قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ) .
هذه الآية ، وما بعدها في المواريث تبيين وتفصيل لما أجمله قوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون . . . ) ولا جرم أن هذه الآية التفصيلية وما بعدها مما تعلق بالمواريث لهي من أركان الشريعة الإسلامية ومن أمهاتها . فهي آيات عظيمة القدر والمعنى ؛ لاحتوائها على أخص الحقوق للبشر وهي الفرائض ( المواريث ) التي روي أنها ثلث العلم أو نصفه وهو أول علم ينزع من الناس وينسى . وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( ص ) قال : " تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول علم ينتزع من أمتي " . وروى البيهقي عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله ( ص ) : " تعلموا القرآن وعلّموه الناس ، وتعلموا الفرائض وعلّموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما " .
والسبب في نزول هذه الآية موضع خلاف العلماء ، وقد ورد في ذلك جملة أقوال نجتزئ من بينها ما نجده صوابا . لما رواه في ذلك الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد وإنما تنكح النساء على أموالهن ، فلم يجبها النبي في مجلسها ذلك . ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " ادع لي أخاه " فجاءه فقال له : " ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي " .
وقيل في سبب النزول : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو فنزلت الآية لتبين أن لكل صغير وكبير حظه في التركة ، يستوي في ذلك أن يكون ذكرا أو أنثى{[702]} .
قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ذهبت الشافعية إلى أن المقصود على الحقيقة هم أولاد الصلب ، أما أولاد الأبناء فهم أولاد على المجاز لا الحقيقة . وخالف في ذلك أبو حنيفة وقال بدخول أولاد الأبناء على الحقيقة إن لم يكن ثمة أولاد أصلاب{[703]} .
ولا يؤخذ بظاهر الآية على إطلاقها ليدخل في الميراث جميع الأولاد ولو كانوا كفارا . فإن ذلك الإطلاق مقيّد بحديث النبي ( ص ) : " لا يرث المسلم الكافر " وبذلك لا يتوارث المسلمون وغير المسلمين إنما يتوارث أهل الملة الواحدة . وفي ذلك روى البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث عن أسامة أن النبي ( ص ) قال : " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " .
ولا يرث القاتل لمورّثه عمدا كان أو خطأ . فإن قتله عمدا فلا يرث بالإجماع . أما إن قتله خطأ فلا يرث أيضا عند جميع المذاهب باستثناء الإمام مالك إذ قال القتل الخطأ لا يمنع التوريث . ولعل ظاهر الدليل من السنّة يجعل رأي الجمهور الصواب فإن النبي ( ص ) يقول فيما رواه ابن ماجه : " ليس لقاتل ميراث " وهو نص صحيح لا نقف على ما يقيده فأجدر أن يؤخذ بإطلاقه .
والفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى ستة هي : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس . أما النصف فهو فريضة خمسة من الورثة هم : ابنة الصلب ، وابنة الابن ، والأخت الشقيقة والأخت لأب ، والزوج . وذلك في حال انفرادهم عمّن يحجبهم من هذه الفرائض أما إن كان ثمة من يحجبهم انخفض فرض كل منهم بحسب حاله .
وأما الرابع فهو فرض الزوج مع الحاجب وهم الأولاد . وفرض الزوجات مع عدم الحاجب من الأولاد .
وأما الثمن فهو فرض الزوجة والزوجات مع وجود الحاجب من الأولاد .
وأما الثلثان فهو فرض أربعة من الورثة هم : اثنان فأكثر من بنات الصلب ، وبنات الابن ، والأخوات الشقيقات ، أو الأخوات لأب . وذلك في حالة انفراد هؤلاء عمن يحجبهن عن هذه الفرائض .
أما الثلث فهو فرض صنفين وهما : الأم مع عدم الولد أو ولد الابن أو عدم الاثنين فأكثر من الإخوة والأخوات . ثم فرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم وهذا هو ثلث كل المال . أما ثلث ما يتبقى من المال فهو للأم وذلك في حالة الزوج والزوجة والأبوين فإن للأم فيها ثلث ما يبقى .
وأما السدس فهو فرض سبعة وهم : الأبوان والجد مع الولد وولد الابن ، ثم الجد والجدات إذا اجتمعن ، ثم بنات الابن مع بنت الصلب ، ثم الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة ثم الواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى .
على أن الأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت ، ونكاح منعقد ، وولاء عتاقة . وقد تجتمع الثلاثة في آن واحد كأن يكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها فيرث بالنسب والزوجية وولاء العتاقة . وقد يجتمع منها شيئان فقط كأن يكون الرجل زوج المرأة ومولاها ، أو زوجها وابن عمها فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد ، فله بذلك نصف المال بالزوجية والنصف الآخر بالولاء أو النسب{[704]} .
أما أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين فإن ذلك غاية في الاعتدال والنصفة ، وغاية في التقسيم الذي يراعي حاجة الصنفين وهما الذكر والأنثى . وهذا التقسيم المتوازن السليم إنما ينبثق من تصور الإسلام للحياة والمجتمع ومن تشريعه المتميز الذي ينظّم حياة الأفراد والجماعة على غاية من الإحكام والترابط والعدل . والإسلام في هذه المسألة بالذات يوازن موازنة تامة بين الحقوق والواجبات أو بين حاجة كل من الرجل والمرأة للمال نظرا للتفاوت بينهما في مدى الحاجة للمال ؛ كيلا يكون شيء من حيف أو إرهاق أو مكابرة .
والمرأة في التوريث لها من النصيب نصف ما للرجل باستثناء بعض الأحوال في تقسيم التركة ، وهي لها من الحظ بقدر ما تضطلع به من التزام ، أو هي تتلقى من المغنم بما يكافئ ما عليها من مغرم جزاء وفاقا .
ومن المعلوم في شريعة الإسلام أن المرأة لا تضطلع بأعباء مالية في معظم مراحل حياتها . فهي يضطلع بالإنفاق عليها وليها الأب أو الجد أو غيرهما حال كونها غير متزوجة ، وإذا لم يكن أحد من الأولياء فالوالي هو الولي . وهي كذلك في بيت الزوجية لا تضطلع بشيء من التزام مالي كيفما كان حتى ولو كانت موسرة وزوجها معسرا عند كثير من العلماء . وفوق براءتها من الاضطلاع بمهمة الإنفاق فقد كتبت لها الشريعة نصيبا مفروضا من التركة وهي نصف الذكر .
وليس لأحد بعد هذا التصور أن يتحذلق في سوء طوية وفساد قصد ليفتري على الإسلام الأباطيل من حيث يعلم أولا يعلم . إنه لا يجترئ على الطعن في الإسلام إلا كل جاحد كافر ، أو مضلّل مخدوع ، يهذي بما لا يدري إلا أن يردد كالببغاء ما تلعقه ألسنة الحاقدين والمتعصبين من أعداء الإسلام ممن أفرزتهم الحضارة الغربية الحديثة بكل مفاسدها وضلالاتها وشرورها وتمردها على رسالات السماء .
قوله تعالى : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) فرض الله للبنت الواحدة نصف التركة . وإن كانت البنات ثلاثا فأكثر فلهن ثلثا التركة بدليل الآية المذكورة . أما البنتان الثنتان فليس فيهما نص واضح هنا فاختلف العلماء في الذي يعطي للبنتين . فثمة قول بأن لهما النصف كما ذهب ابن عباس . والراجح أن لهما الثلثين بالقياس على الأختين اللتين قال الله فيهما : ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) .
قوله : ( وإن كانت واحدة فلها النصف ) أي إذا كانت المولودة واحدة فلها نصف التركة وإن كان مع بنات الصلب بنات ابن وكانت بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن فلا يرثن بالفرض ؛ لأنه لا مجال لبنات الابن في التوريث بالفرض في غير الثلثين . وإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن حينئذ مع بنات الصلب تكملة للثلثين ؛ لان " الثلثين " فرض تشترك فيه البنتان فصاعدا . وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن ، وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين عند عدمهم{[705]} .
فلو توفي عن زوجة وبنت وبنت ابن وأخت . كان للزوجة الثمن وللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين وهو فرض البنات ، وما بقي فهو للأخت . ولو توفي عن زوجة حبلى قسمت التركة بين الورثة الموجودين على أن تحتجز حصة الجنين ريثما يولد ؛ لأنه يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل ( بكى عند الولادة ) أما إن خرج ميتا فلا يرث وأعيد توزيع حصته على الورثة كل بحسب نصيبه .
وحق الجنين في التوريث معتبر ، فإذا قسمت التركة حسبت حصته على أنه ذكر ، وقيل حسبت على أن الجنين توأمان وقيل ثلاث وقيل أكثر . وفي ذلك دلالة على الاهتمام بالمولود كي يتمكن من العيش في خير وعافية .
وترد هنا مسألة الخنثى فهل يورث باعتباره ذكرا أم أنثى وكيف يتحقق من نوعيته على إحدى الصورتين ؟ والمسألة موضع خلاف طويل نقتصر من ذلك كله على بيان واضح ومجمل ، وهو أن العلماء اتفقوا على أن الخنثى يمكن توريثه على الكيفية التي بها يبول . فإن بال من حيث يبول الرجل ورث كما يرث الرجل ، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث كما ترث المرأة . فهو معتبر على الكيفية التي بها يبول ومن ثم يكون على إحدى الصورتين إما الذكورة أو الأنوثة . وهناك أقوال كثيرة في هذا الصدد لا مجال لذكرها هنا{[706]} .
قوله : ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك وإن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) .
المقصود بالضمير في أبويه هو المتوفى . والأبوان هما الأب والأم ولهما في الإرث أحوال :
أولها : أن يجتمعا مع أولاد الميت فيفرض لكل واحد منهما السدس . فإذا لم يكن للميت غير بنت واحدة كان لها الصنف ولكل واحد من الأبوين السدس . والسدس الآخر للأب بالتعصب فيرث في هذه الحالة بالفرض والتعصب .
ثانيها : أن ينفرد الأبوان بالميراث فيكون للأم الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب فقط .
ولو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع . ثم ماذا للأم بعد ذلك ؟ هناك ثلاثة أقوال للعلماء في هذه المسألة :
القول الأول : إن تأخذ الأم ثلث الباقي في المسألتين وليس ثلث المال كله ؛ لأن الباقي يعتبر كأنه جميع المال الموروث بالنسبة لها ، مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لها نصف ما للأب فيكون لها بذلك الثلث وللأب الثلثان . وذلك الذي ذهب إليه جمهور العلماء .
القول الثاني : إن الأم تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله تعالى : ( فلأمه الثلث ) وهو قول ابن عباس وعلي ومعاذ بن جبل .
القول الثالث : إنها تأخذ ثلث جميع المال في حال الزوجة لا الزوج . وتأخذ ثلث الباقي في حال الزوج ؛ وذلك لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال . فتكون المسألة هنا من ستة أسهم . للزوج النصف وهو ثلاثة أسهم . وللأم ثلث الباقي وهو سهم . وللأب الباقي وهو سهمان . ويبدو أن القول الأول هو الراجح وهو أن تأخذ الأم ثلث الباقي في الحالتين .
ثالثها : أن يجتمع الأبوان مع الأخوة سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم . فلا يرث الإخوة مع الأب شيئا ؛ لأنه يحجبهم . أما الأم فإنهم يحجبونها حجب نقصان إذ تأخذ السدس بدلا من الثلث فيفرض لها مع وجودهم السدس ولا يرثون . وهي لا يحجبها الأخ الواحد ، بل يحجبها ما فوق ذلك ليتحول فرضها من الثلث إلى السدس{[707]} .
قوله : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) وذلك من الحقوق المتعلقة بالتركة ، فإذا مات المرء تعلقت بتركته حقوق الآخرين غير الورثة . وأول هذه الحقوق الدين الذي يشغل ذمة الميت إذا بقي إلى ما بعد الوفاة بغير أداء . ثم الوصية وهي التي وعد بها الموصي حال حياته . فكلا الحقين وهما الدين والوصية يقدمان على حق الورثة في تقسيم التركة . وليس لهم أن يطالبوا بتوزيع تركة المتوفى أو التصرف بها إلا بعد أداء الدين أولا ثم الوصية في حدود ثلث المال ثانيا .
وفي تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين في الآية ما يثير التساؤل ، مع أن العلم من السلف والخلف قد أجمعوا على أن الدين مقدم على الوصية . وفي هذا المعنى أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة عن علي بن أبي طالب قال : إنكم تقرأون ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) إن رسول اله ( ص ) قضى بالدين قبل الوصية .
وثمة وجوه في الحكمة من تقديم ذكر الوصية في الآية على ذكر الدين ، نقتضب منها ثلاثة وجوه هي :
الوجه الأول : أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان في إخراجها ما يشق على أنفس الورثة ، فكان أداؤها مظنة للتفريط منهم ، وذلك بخلاف الدين فإن الورثة مطمئنون إلى أدائه . من أجل ذلك قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين تحريضا للورثة على أدائها وترغيبا لهم في إخراجها من غير تردد أو تثاقل . ويؤيد استواء الوصية والدين في الوجوب قوله : ( أو ) .
الوجه الثاني : قدم الوصية لكثرة وقوعها . فأكثر المسلمين لا يفارقون هذه الدنيا إلا وقد تركوا لأنفسهم من خلفهم وصية يرجون بها جزيل المثوبة من الله . لكن الدين أقل وجودا . فهو ربما يقع أو لا يقع .
الوجه الثالث : قدمت الوصية في الآية ؛ لأنها حظ المساكين والضعفاء ، أما الدين فإنه حظ الغرماء . والغريم يطلب دينه من المدين بقوة السلطان والقضاء .
قوله : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) لا داعي للمحاباة ومجانبة العدل والمساواة . وليس لأحد أن يميل بهواه وعاطفته صوب من يرغب من آباء أو أبناء ، فإن المنفعة متوقعة ومرجوة من هذا مثلما هي متوقعة ومرجوة من الآخر . وعلى ذلك فإن الله سبحانه قد فرض لهذا وهذا وساوى بين الجميع في أصل الميراث كل بحسبه خلافا لما كانت عليه الحال في الجاهلية . وليت شعري هل يدري المرء من أنفع له ، هل هو الابن أم الأب ؟ والمراد بالنفع في الدنيا الدعاء المستجاب ، والشفاعة يوم القيامة ، فقد ذكر عن ابن عباس والحسن أن الابن إذا كان أرفع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فرفع إليه أباه . وكذلك الأب إذا كان أرفع من ابنه .
قوله : ( فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ) أي ما تبين من أحكام للتوريث وإعطاء بعضهم أكثر من بعض هو فرض قد فرضه الله وقضاه بعلمه وحكمته فهو العليم بمواضع الخير والحق الحكيم في تصرفه وتقديره{[708]} .