هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : { للرّجَالِ نَصيِبٌ ممَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] الآية ، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض ، وقد كان هذا العلم من أجلّ علوم الصحابة ، وأكثر مناظراتهم فيه ، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله .
قوله : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } أي : في بيان ميراثهم . وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا ؟ فقالت الشافعية : إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة ، وقالت الحنفية : إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب ، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم ، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم ، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً ، ويخرج بالسنة ، وكذلك يدخل القاتل عمداً ، ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع ، ويدخل فيه الخنثى . قال القرطبي : وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول ، فإن بال منهما ، فمن حيث سبق ، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما ، فله نصف نصيب الذكر ، ونصف نصيب الأنثى . وقيل : يعطى أقلّ النصيبين ، وهو نصيب الأنثى ، قاله يحيى بن آدم ، وهو قول الشافعي . وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف ، والهجرة ، والمعاقدة . وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين ، للحديث الثابت في الصحيحين ، وغيرهما بلفظ : «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر » إلا إذا كان ساقطاً معهم ، كالأخوة لأم .
وقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد ، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم : ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين . والمراد : حال اجتماع الذكور والإناث ، وأما حال الانفراد ، فللذكر جميع الميراث ، وللأنثى النصف ، وللاثنتين فصاعداً الثلثان . قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي : فإن كنّ الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر ، أو البنات ، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين ، أي : زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء ، أو يكون خبراً ثانياً لكان : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } الميت المدلول عليه بقرينة المقام .
وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً ، ولم يسم للاثنتين فريضة ، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين .
وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف ، احتج الجمهور بالقياس على الأختين ، فإن الله سبحانه قال في شأنهما : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان } [ النساء : 176 ] فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ، كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين ، وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش ، والمبرد . قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين ، وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين ، وابناً فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن هذا فرضهما ، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف } كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة ، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين .
وقيل : إن { فوق } زائدة ، والمعنى : وإن كنّ نساء اثنتين ، كقوله تعالى : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الأنفال : 12 ] أي : الأعناق ، ورد هذا النحاس ، وابن عطية ، فقالا : هو خطأ ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى . قال ابن عطية : ولأن قوله : { فَوْقَ الأعناق } هو الفصيح ، وليست { فوق } زائدة ، بل هي محكمة المعنى ؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ ، وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . انتهى . وأيضاً لو كان لفظ { فوق } زائداً ، كما قالوا لقال ، فلهما ثلثا ما ترك . ولم يقل ، فلهن ثلثا ما ترك ، وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالاً ، ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال : " يقضي الله في ذلك " ، فنزلت آية الميراث : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } الآية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما ، فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي ، فهو لك " أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر . قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه .
قوله : { وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف } قرأ نافع ، وأهل المدينة : «واحدةٌ » بالرفع على أن كان تامة بمعنى : فإن وجدت واحدة ، أو حدثت واحدة . وقرأ الباقون بالنصب ، قال النحاس : وهذه قراءة حسنة ، أي : وإن كانت المتروكة ، أو المولودة واحدة .
قوله : { وَلأِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد منْهُمَا السدس } أي : لأبوي الميت ، وهو : كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و { لِكُلّ واحد منْهُمَا السدس } بدل من قوله : { وَلأبَوَيْهِ } بتكرير العامل للتأكيد ، والتفصيل . وقرأ الحسن ، ونعيم بن ميسرة : «السدس » بسكون الدال ، وكذلك قرأ " الثلث " ، والربع إلى العشر بالسكون ، وهي لغة بني تميم ، وربيعة ، وقرأ الجمهور بالتحريك ضماً ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبني أسد في جميعها . والمراد بالأبوين : الأب والأم ، والتثنية على لفظ الأب للتغليب .
وقد اختلف العلماء في الجد ، هل هو بمنزلة الأب ، فتسقط به الأخوة أم لا ؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب ، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته ، واختلفوا في ذلك بعد وفاته ، فقال بقول أبي بكر ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعائشة ، ومعاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وإسحاق ، واحتجوا بمثل قوله تعالى : { ملَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم } [ الحج : 78 ] وقوله : { يا بني آدم } [ الأعراف ؛ 26 ، 27 ، 31 ، 35 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " ارموا يا بني إسماعيل " وذهب علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت ، وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب ، ولا ينقص معهم من الثلث ، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد ، والشافعي . وقيل : يشرك بين الجد ، والإخوة إلى السدس ، ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو : قول ابن أبي ليلى ، وطائفة . وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة ، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة . وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئاً ، وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم ، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ .
واختلفوا في توريث الجدة ، وابنها حيّ ، فروي عن زيد بن ثابت ، وعثمان ، وعلي أنها لا ترث ، وابنها حيّ ، وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي عن عمر وابن مسعود ، وأبي موسى : أنها ترث معه . وروي أيضاً ، عن عليّ ، وعثمان ، وبه قال شريح ، وجابر بن زيد ، وعبيد الله بن الحسن ، وشريك ، وأحمد ، وإسحاق وابن المنذر .
قوله : { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } الولد يقع على الذكر والأنثى ، لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد ، وحده أو مع الأنثى منهم ، فليس للجد إلا السدس ، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض ، وهو عصبة فيما عدا السدس ، وأولاد ابن الميت كأولاد الميت .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لهُ وَلَدٌ } أي : ولا ولد ابن لما تقدّم من الإجماع { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } منفردين ، عن سائر الورثة ، كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين ، أما لو كان معهما أحد الزوجين ، فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين . وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين ، وهو يستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أن أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين .
قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السدس } إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما .
وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس ، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب . وأجمعوا أيضاً على أن الأختين فصاعداً ، كالأخوين في حجب الأم . قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم : «يوصى » بفتح الصاد . وقرأ الباقون بكسرها ، واختار الكسر أبو عبيد ، وأبو حاتم ؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا . قال الأخفش : وتصديق ذلك قوله : { يُوصِينَ } و{ توصون } .
واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع ، فقيل : المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما ، وقيل : لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدّمت اهتماماً بها وقيل : قدّمت لكثرة وقوعها ، فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل : قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء ، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وقيل : لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت ، بخلاف الدين ، فإنه ثابت مؤدي ذكر أو لم يذكر وقيل : قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، فربما يشق على الورثة إخراجها ، بخلاف الدين ، فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه ، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى : { غَيْرَ مُضَارّ } كما سيأتي إن شاء الله .
قوله : { آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } قيل : خبر قوله : { آباؤكم وأبناؤكم } مقدر أي : هم المقسوم عليهم ، وقيل : إن الخبر قوله : { لاَ تَدْرُونَ } وما بعده { وَأَقْرَبَ } خبر قوله : { أَيُّهُم } و { نَفْعاً } تمييز ، أي : لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم ، والصدقة عنكم ، كما في الحديث الصحيح : " أو ولد صالح يدعو له " وقال ابن عباس ، والحسن : قد يكون الابن أفضل ، فيشفع في أبيه . وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه ، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه .
وقيل المراد : النفع في الدنيا ، والآخرة ، قاله ابن زيد ، وقيل : المعنى : إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم ، أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعاً ، أو من ترك الوصية ، ووفر عليكم عرض الدنيا ؟ وقوى هذا صاحب الكشاف ، قال : لأن الجملة اعتراضية ، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ، ويناسبه قوله : { فَرِيضَةً منَ الله } نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى : { يُوصِيكُمُ } يفرض عليكم . وقال مكي ، وغيره : هي حال مؤكدة ، والعامل يوصيكم . والأوّل أولى { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بقسمة المواريث { حَكِيماً } حكم بقسمتها ، وبينها لأهلها . وقال الزجاج : { عَلِيماً } بالأشياء قبل خلقها { حَكِيماً } فيما يقدّره ويمضيه منها .