قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } الآية . اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الآية . وكانت أيضاً في الجاهلية وابتداء الإسلام بالمحالفة ، قال الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال الله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } . فنسخ ذلك كله وصارت الوراثة بأحد الأمور الثلاثة : بالنسب والنكاح والولاء ، والمعنى بالنسب أن القرابة يرث بعضهم من بعض لقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } والمعنى بالنكاح : أن أحد الزوجين يرث صاحبه ، وبالولاء : أن المعتق وعصباته يرثون المعتق ، فنذكر بعون الله تعالى فصلاً وجيزاً في بيان من يرث من الأقارب ؟ وكيفية توريث الورثة ؟ فنقول : إذا مات ميت وله مال فيبدأ بتجهيزه ، ثم بقضاء ديونه ، ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسم بين الورثة . على ثلاثة أقسام : منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعاً . فمن يرث بالنكاح لا يرث إلا بالفرض ، ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب ، أما من يرث بالقرابة فمنهم من يرث بالفرض كالبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم . ومنهم من يرث بالتعصيب كالبنين ، والإخوة ، وبني الأعمام وبنيهم ، ومنهم من يرث بهما كالأب يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد ، فإن كان للميت ابن : فيرث الأب بالفرض السدس ، وإن كان للميت بنت فيرث الأب السدس بالفرض ويأخذ الباقي بعد نصيب البنت بالتعصيب ، وكذلك الجد وصاحب التعصيب من يأخذ جميع المال عند الانفراد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض وجملة الورثة سبعة عشر : عشرة من الرجال وسبع من النساء ، فمن الرجال : الابن ، وابن الابن وإن سفل ، والأب ، والجد أبو الأب وإن علا ، والأخ ، سواء كان لأب وأم أو لأب ، أو لأم ، وابن الأخ للأم ، أو للأب ، وإن سفل ، والعم للأب والأم ، أو للأب . وأبناؤهما وإن سفلوا ، والزوج ومولى العتاق . ومن النساء : البنت ، وبنت الابن وإن سفلت ، والجدة أم الأم وأم الأب ، والأخت ، سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم ، والزوجة ، ومولاة العتاق . وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمات بالغير : الأبوان والولدان ، والزوجان ، لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة . والأسباب التي توجب حرمان الميراث أربعة : اختلاف الدين ، والرق ، والقتل ، وعمى الموت . ونعني باختلاف الدين أن الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب ، أنا عبد العزيز بن احمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الشافعي أنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ) . فأما الكفار فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم ، لأن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } . وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث حتى لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) . وتأوله الآخرون على الإسلام مع الكفر . وأما الكفر فكله ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوراث بين أهل ملتين شتى ، والرقيق لا يرث أحداً ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له لا فرق فيه بين القن ، والمدبر ، والمكاتب ، وأم الولد . والقتل يمنع الميراث عمداً كان أو خطأ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القاتل لا يرث ) .
ونعني بعمى الموت أن المتوارثين إذا عمي موتهما بأن غرقاً في ماء ، أو انهدم عليهما بناء ، فلم يدر أيهما سبق موته فلا يورث أحدهما من الآخر بل ميراث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقيناً بعد موته من ورثته . والسهام المحدودة في الفرائض ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس .
فالنصف فرض ثلاثة : فرض الزوج عند عدم الولد ، وفرض البنت الواحدة للصلب أو لبنت الابن عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم أو للأب إذا لم يكن ولد الأب وأم .
والربع فرض الزوج اثنين : فرض الزوج إذا كان للميت ولد ، وفرض الزوجة إذا لم يكن للميت ولد .
والثمن : فرض الزوجة إذا كان للميت ولد .
والثلثان فرض البنتين للصلب فصاعداً ، ولبنتي الابن فصاعداً عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأختين لأب وأم أو للأب فصاعداً .
والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات ، إلا في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان ، والثانية زوجة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة ، وفرض لاثنين فصاعداً من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ، وفرض الجد مع الإخوة إذ لم يكن في المسألة صاحب فرض ، وكان الثلث خيراً للجد من المقاسمة مع الإخوة . وأما السدس ففرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد ، وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات ، وفرض الجد إذا كان للميت ولد ، ومع الإخوة والأخوات إذا كان في المسألة صاحب فرض ، وكان السدس خيراً للجد من المقاسمة مع الإخوة ، وفرض الجدة والجدات وفرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان أو أنثى ، وفرض بنات الابن إذا كان للميت بنت واحدة للصلب تكملة للثلثين ، وفرض الأخوات للأب إذا كان للميت أخت واحدة لأب وأم تكملة الثلثين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أنا وهب بن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولي رجل ذكر ) . وفي الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض .
والحجب نوعان : حجب نقصان وحجب حرمان . فأما حجب النقصان فهو أن الولد أو ولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع ، والزوجة من الربع إلى الثمن ، والأم من الثلث إلى السدس ، وكذلك الاثنان فصاعداً من الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس .
وحجب الحرمان هو أن الأم تسقط الجدات كلهن ، وأولاد الأم وهم : الإخوة والأخوات للأم يسقطون بأربعة : بالأب ، والجد وإن علا ، وبالولد ، وولد الابن وإن سفل ، وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة : بالأب ، والابن ، وابن الابن وإن سفلوا . ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله . وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة ، وبالأخ للأب والأم . وذهب قوم إلى أن الإخوة جميعاً يسقطون بالجد كما يسقطون بالأب ، وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وطاووس وأبو حنيفة رحمهم الله . وأقرب العصبات يسقط الأبعد من العصوبة ، وأقربهم : الابن ، ثم ابن الابن وإن سفل ، ثم الأب ، ثم الجد أبو الأب وإن علا ، فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث ، فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ، ثم الأخ للأب ، ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى ، ثم العم للأب والأم ، ثم العم للأب ، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ، ثم عم الأب ، ثم عم الجد على هذا الترتيب . فإن لم يكن أحد من عصبات النسب وعلى الميت ولاء فالميراث للمعتق ، فإن لم يكن حياً فلعصبات المعتق .
وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن ، وابن الابن ، والأخ للأب والأم ، والأخ للأب حتى لو ماتت عن ابن وبنت ، أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب فإنه يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا يفرض للبنت والأخت . وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئاً حتى لو مات عن بنتين وبنت الابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن ، فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين . والأخت للأب والأم وللأب تكون عصبة مع البنت ، حتى لو مات عن بنت وأخت كان النصف للبنت والباقي للأخت ، فلو مات عن بنتين وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت . والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أنا أبو قيس قال : سمعت هزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأخت فقال : للبنت النصف ، وللأخت النصف ، وائت ابن مسعود ، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم : للبنت الصنف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . رجعنا إلى تفسير الآية . واختلفوا في سبب نزولها . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل . أخبرنا أبو الوليد أنا شعبة عن محمد بن المنكدر : قال سمعت جابراً يقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت : يا رسول الله لمن الميراث ؟ إنما يرثني كلالة . فنزلت آية الفرائض . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته . وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وبنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد وإن سعدا قتل يوم أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ولا تنكحان إلا ولهما مال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك . فنزل { يوصيكم الله } إلى آخرها . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما فقال له : أعط ابنتي سعد الثلثين . وأمهما الثمن . وما بقي فهو لك ، فهو أول ميراث قسم في الإسلام . قوله عز وجل : { يوصيكم الله في أولادكم } أي : يعهد إليكم ويفرض عليكم ( في أولادكم ) أي : في أمر أولادكم إذا متم . { للذكر مثل حظ الأنثيين } .
قوله تعالى : { فإن كن } . يعني : المتروكات من الأولاد .
قوله تعالى : { نساءً فوق اثنتين } . أي : اثنتين فصاعداً " فوق " صلة ، كقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } .
قوله تعالى : { فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت } . يعني : البنت .
قوله تعالى : { واحدة } . قراءة العامة على خبر كان ورفعها أهل المدينة على معنى إن وقعت واحدة .
قوله تعالى : { فلها النصف ولأبويه } . يعني لأبوي الميت كناية عن غير مذكور .
قوله تعالى : { لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } . أراد أن الأب والأم يكون لكل واحد منهما سدس الميراث عند وجود الولد أو ولد الابن والأب يكون صاحب فرض .
قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } . قرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة استقلالاً للضمة بعد الكسرة ، وقرأ الآخرون بالضم على الأصل .
قوله تعالى : { فإن كان له إخوة } . اثنان أو أكثر ذكوراً أو إناثاً .
قوله تعالى : { فلأمه السدس } . والباقي يكون للأب إن كان معها أب والإخوة لا ميراث لهم مع الأب ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلا أن يكونوا ثلاثةً لأن الله تعالى قال : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } . ولا يقال للاثنين إخوة . فنقول : اسم الجمع قد يقع على التثنية لأن الجمع ضم شيء إلى شيء وهو موجود في الاثنين كما قال الله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } ذكر القلب بلفظ الجمع وأضافه إلى اثنين .
قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر { يوصى } بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله ، وكذلك الثانية ، ووافق حفص في الثانية . وقرأ الآخرون بكسر الصاد لأنه جرى ذكر الميت من قبل بدليل قوله تعالى : { يوصين } و{ توصون } . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية ، وهذا إجماع أن الدين مقدم على الوصية ، ومعنى الآية : الجمع لا الترتيب وبيان أن الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعاً من بعد وصية إن كانت أو دين إن كان ، والإرث مؤخر عن كل واحد منهما .
قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم } . يعني الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم .
قوله تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } . أي : لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم وقد دبرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه . وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة والله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم .
قوله تعالى : { فريضةً من الله } . أي : ما قدر الله من المواريث .