معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

قوله تعالى : { فأجاءها } ، أي ألجأها وجاء بها ، { المخاض } ، وهو وجع الولادة ، { إلى جذع النخلة } وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، في شدة الشتاء ، لم يكن لها سعف . وقيل : التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة ، { قالت يا ليتني مت قبل هذا } ، تمنت الموت استحياءً من الناس وخوف الفضيحة ، { وكنت نسياً } ، قرأ حمزة و حفص نسياً بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان ، مثل : الوتر ، والوتر ، والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي ، و النسي في اللغة : كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته . { منسياً } ، أي : متروكاً قال قتادة : شيء لا يعرف ولا يذكر . قال عكرمة والضحاك ومجاهد : جيفة ملقاة . وقيل : تعني لم أخلق .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

ألجأها المخاض إلى جذع نخلة ، فلما آلمها وجع الولادة ، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب ، ووجع قلبها من قالة الناس ، وخافت عدم صبرها ، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث ، وكانت نسيا منسيا فلا تذكر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

ثم حكى - سبحانه - ما اعتراها من حزن عندما أحست بقرب الولادة فقال : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } .

وقوله : { فَأَجَآءَهَا } أى : فألجأها ، يقال : أجأته إلى كذا ، بمعنى : ألجأته واضطرته إليه . ويقال : جاء فلان . وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجىء ، ومنه قول الشاعر :

وجارٍ سارَ معتمداً علينا . . . أجاءته المخافة والرجاء

قال صاحب الكشاف : " أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه . . " .

والمخاض : وجع الولادة . يقال : مخضت المرأة - بكسر الخاء - تمخض - بفتحها - إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين فى بطن الأم عند قرب خروجه .

وجذع النخلة : ساقها الذى تقوم عليه .

أى : وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به - وهو محمول فى بطنها - عن قومها ، وحان وقت ولادتها . ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لنتكىء عليه عند الولادة . . .

فاعتراها فى تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } الحمل والمخاض الذى حل بى { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أى : وكنت شيئاً منسياً متروكاً ، لا يهتم به أحد ، وكل شىء نُسى وترك ولم يطلب فهو نَسْىٌ ونسِيُّ .

قال القرطبى : " والنِّسْىُ فى كلام العرب : الشىء الحقير الذى من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر ، وقرىء : { نَسْياً } بكسر النون وهما لغتان مثل : الوِتر والوَتر . . . " .

قال الآلوسى ما ملخصه : " وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفاً من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس فى المعصية بسبب كلامهم فى شأنها .

وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه - لأنه يتعلق بأمر دينى - نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر . . . ففى صحيح مسلم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : الله أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى " .

ومن ظن أن تمنى مريم الموت كان لشدة الوجع فقد اساء الظن .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

16

فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق ، بينها وبين نفسها ، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة . ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية . تواجه المخاض الذي( أجاءها )إجاءة إلى جذع النخلة ، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها . وهي وحيدة فريدة ، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض ، ولا علم لها بشيء ، ولا معين لها في شيء . . فإذا هي قالت : ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا )فإننا لنكاد نرى ملامحها ، ونحس اضطراب خواطرها ، ونلمس مواقع الألم فيها . وهي تتمنى لو كانت( نسيا ) : تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض ، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

وقوله : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } [ أي : فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة ]{[18760]} وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه .

وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس .

وقال وهب بن مُنَبِّه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ، ضربها الطلق . وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس ، في قرية هناك يقال لها : " بيت لحم " .

قلت : وقد تقدم في حديث{[18761]} الإسراء ، من رواية النسائي عن أنس ، رضي الله عنه ، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس ، رضي الله عنه : أن ذلك ببيت لحم ، فالله أعلم ، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقد تلقاه الناس . وقد ورد به الحديث إن صح .

وقوله تعالى إخبارًا عنها : { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي قبل هذا الحال ، { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي لم أخلق ولم أك شيئًا . قاله ابن عباس .

وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل - استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } نُسِيَ فتُرِك طلبه ، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر . وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ .

وقال قتادة : { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي : شيئًا لا يعرف ، ولا يذكر ، ولا يدرى من أنا .

وقال الربيع بن أنس : { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } وهو{[18762]} السقط .

وقال ابن زيد : لم أكن شيئًا قط .

وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة ، عند قوله : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ]


[18760]:زيادة من ف، أ.
[18761]:في ت، ف: "أحاديث"
[18762]:في ف، أ: "أي".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

وقوله : فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ يقول تعالى ذكره : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة ، ثم قيل : لما أسقطت الباء منه أجاءها ، كما يقال : أتيتك بزيد ، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا ، كما قال جلّ ثناؤه : آتُونِي زُبُرَ الحَدِيدِ والمعنى : ائتوني بزُبَر الحديد ، ولكن الألف مُدّت لما حذفت الباء ، وكما قالوا : خرجت به وأخرجته ، وذهبت به وأذهبته ، وإنما هو أفعل من المجيء ، كما يقال : جاء هو ، وأجأته أنا : أي جئت به ، ومثل من أمثال العرب : «شرّ ما أجاءني إلى مُخّة عرقوب » ، وأشاء ويقال : شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلى ذلك ومنه قول زهير :

وَجارٍ سارَ مُعْتَمِدا إلَيْكُمْ *** أجاءَتْهُ المَحافَةُ وَالرّجاءُ

يعني : جاء به ، وأجاءه إلينا وأشاءك : من لغة تميم ، وأجاءك من لغة أهل العالية ، وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى : ألجأها ، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة ، كان قد ألجأها إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فأجاءَها المَخاضُ قال : المخاض ألجأها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألجأها المخاض . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ يقول : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ قال : اضطرّها إلى جذع النخلة .

واختلفوا في أيّ المكان الذي انتبذتْ مريم بعيسى لوضعه ، وأجاءها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشام ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سهل ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقِل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها قَرابة لها ، يقال له يوسف النجّار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صِهْيَون ، وكان ذلك المسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم ، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم ، فرغبا في ذلك ، فكانا يليان معالجته بأنفسهما ، تحبيره وكناسته وطهوره ، وكلّ عمل يعمل فيه ، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبادة منهما ، فكان أوّل من أنكر حَمْل مريم صاحُبها يوسف فلما رأى الذي بها استفظعه ، وعظُم عليه ، وفُظِع به ، فلم يدر على ماذا يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها ، رأى الذي ظهر عليها فلما اشتدّ عليه ذلك كلّمها ، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته ، وقد حَرَصت على أن أميته وأكتمه في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري ، قالت : فقل قولاً جميلاً ، قال : ما كنت لأقول لك إلا ذلك ، فحدثيني ، هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم ، قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها ؟ قالت : نعم ، قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث ، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما وحده ، أم تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف لها : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون ، قالت مريم : أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر ؟ قال : بلى ، فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى ، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه ، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك .

ثم تولى يوسف خدمة المسجد ، وكفاها كلّ عمل كانت تعمل فيه ، وذلك لما رأى من رقة جسمها ، واصفرار لونها ، وكلف وجهها ، ونتوّ بطنها ، وضعف قوّتها ، ودأب نظرها ، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حُبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفا لعيسى ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آريّ حمار ، يعني مذود الحمار ، وأصل نخلة ، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرّا «الشكّ من أبي جعفر » ، فاشتدّ على مريم المخاض فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة ، قاموا صفوفا محدقين بها .

وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا ، وذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لايتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما حضر ولادُها ، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء ، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء ، فوضعته عندها .

وقال آخرون : بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جِذع النخلة ، وذلك قول السدي ، وقد ذكرت الرواية به قبل .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملتْ فولدتْ .

وقوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس ، كما :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا .

تقول : يا ليتني متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل ، وكنت نِسيا منسيا : شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسيّ . ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، مثل الوَتر والوِتر ، والجَسر والجِسر ، وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبالفتح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر :

كأنّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُ *** إذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ

ويعني بقوله : تقصه : تطلبه ، لأنها كانت نسيته حتى ضاع ، ثم ذكرته فطلبته ، ويعني بقوله : تبلت : تحسن وتصدّق ، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا ، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول : نسيته نسيانا ونسيا ، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان ، يعني وعصيان ، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا ، كما قال الشاعر :

أَتُي الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرُوفَةٌ *** ويَرَوْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا

وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت : ليتني كنت الشيء الذي ألقي ، فترك ونسي .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لم أخلق ، ولم أك شيئا .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول : نِسيا : نُسي ذكري ، ومنسيا : تقول : نسي أثري ، فلا يُرى لي أثر ولا عين .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال : لا أعرف ولا يدري من أنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال : هو السقط .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لم أكن في الأرض شيئا قط .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

و { أجاءها } معناه ، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة{[7928]} ورويت عن عاصم «فاجأها » من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض » .

وقال زهير : [ الوافر ]

وجار سار معتمداً إليكم . . . أجاءته المخافة والرجاء{[7928]}

وقرأ الجمهور «المَخاض » بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها » ، روي أنها بلغت الى موضع كان فيه «جذع نخلة » بالٍيابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ، { يا ليتني مت } ولم يجر علي هذا القدر ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم{[7930]} وأبو عمرو وجماعة «مُت » بضم الميم ، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مِت » بكسرها واختلف عن نافع ، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح ، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن{[7931]} وقد أباحه عليه السلام في قوله : «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه »{[7932]} .

قال القاضي أبو محمد : لأنه زمن فتن يذهب بالدين ، { وكنت نسياً } أي شيئاً متروكاً محتقراً ، و «النسي » في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده ، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه ، ويقال «نِسي » بكسر النون و «نَسي » بفتحها ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ حمزة وحده بالفتح ، واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة ، قرأ طلحة ويحيى والأعمش ، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نِسئاً » بكسر النون ، وقرأ نوف البكالي «نَسأً » بفتح النون ، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب ، وقرأ بكر بن حبيب «نَسّاً » بشد السين وفتح النون دون همز ، وقال الشنفرى : [ الطويل ]

كأنَّ لها في الأرض نسّاً تقصه . . . إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت{[7933]}

وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضاً أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت ؟ » قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت ؟ » قالت له «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك » وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه الى ناحية بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله تعالى { مصدقاً بكلمة من الله }{[7934]} [ آل عمران : 39 ] وفي هذا كله ضعف فتأمله . وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني اسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه ، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملاً على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول الجمهور المتأولين ، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم . وظاهر قوله { فأجاءها المخاض } يقتضي أنها كانت على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة .


[7928]:البيت من قصيدة له معروفة، قالها في هجاء (آل حصن)، ومنها بيته المشهور: و ما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟ وسببها أنهم أجاروا رجلا يحب القمار، فنهوه عنه ولكنه خالفهم ثلاث مرات، فتركوه لشأنه دون جوار بعد أن خسر زوجته وابنه في الرهان، فخرج عنهم وشكاهم إلى زهير، فقال هذه القصيدة، ثم لم علم الحقيقة ندم على هجائه، وقال: ما خرجت في ليلة ظلماء إلا خفت أن يصيبني الله بعقوبة لهجائي قوما ظلمتهم، وفي هذا البيت يتحدث عن هذا الجار الذي سار إليهم معتمدا عليهم بعد أن ألجأته إليهم المخافة والرجاء. والشاهد هنا أن (أجاءته) بمعنى: ألجأته واضطرته.
[7930]:في رواية أبي بكر، أما قراءة عاصم ـ في رواية حفص ـ فهي [مت] بكسر الميم كما هو ثابت في المصحف.
[7931]:نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت في حديث أخرجه البخاري في المرضى، والدعوات، والتمني، ومسلم في الذكر، وأبو داود والنسائي في الجنائز، وابن ماجه في الزهد، والدارمي في الرقاق، وأحمد في مواضع كثيرة من مسنده، ولفظه في البخاري كما جاء في كتاب التمني، باب ما يكره من التمني، قال أنس رضي الله عنه: لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تتمنوا الموت) لتمنيت، وفي رواية عن سعد بن عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب)، وعن خالد بن قيس قال: أتينا خباب ابن الأرت نعوده وقد اكتوى سبعا فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به.
[7932]:أخرجه ابن ماجه في الفتن.
[7933]:البيت للشنفرى الأزدي، ومعنى الشنفرى: عظيم الشفة، وهو ابن أخت تابط شرا، والبيت من المفضلية العشرين، قالها حين علم أن القوم الذين تربى فيهم وهم بنو سلامان ابن مفرج قد قتلوا أباه وأخذوه أسيرا، فتوعدهم بقتل مائة منهم، وفي القصيدة تحدث عن شدة بأسه وقوته، وفخر باستهانته بالحياة ومجازاته الخير والشر بمثلهما. والبيت أيضا في اللسان (نسى)، والنسي: الشيء المنسي الذي لا يذكر، وقال الأخفش: النسي: ما أغفل من شيء حقير ونسي، وقال الزجاج: النسي: الشيء المطروح الذي لا يؤبه له، تقصه: تتبعه، من القص وهو اتباع الأثر، والرواية في المفضليات: (على أمها، وإن تكلمك تبلت) والأم بفتح الهمزة: الشيء المقصود الذي تريده. وتبلت: تنقطع في كلامها فلا تطيل الحديث، يقول: كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئا ضاع منها خفضت رأسها فلا ترفعها ولا تلتفت، وإن حدثتها فإنها لا تسطيع أن تجاريك أو تجاوبك من شدة الخجل.
[7934]:من الآية (39) من سورة (آل عمران).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ" يقول تعالى ذكره: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة، ثم قيل لما أسقطت الباء منه "أجاءها"، كما يقال: أتيتك بزيد، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا، كما قال جلّ ثناؤه: "آتُونِي زُبُرَ الحَدِيدِ "والمعنى: ائتوني بزُبَر الحديد، ولكن الألف مُدّت لما حذفت الباء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته، وإنما هو أفعل من المجيء، كما يقال: جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به... وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى: ألجأها، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة، كان قد ألجأها إليه... وقال ابن عباس: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة... عن قتادة... قال: اضطرّها إلى جذع النخلة...

وقوله: "يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا" ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس... تقول: يا ليتني متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل، "وكنت نِسيا منسيا": شيئا نُسي فُترك طلبه... وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسيّ...

وقوله "مَنْسِيّا" مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: ليتني كنت الشيء الذي ألقي، فترك ونسي...

عن السديّ "وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا" يقول: نِسيا: نُسي ذكري، ومنسيا: تقول: نسي أثري، فلا يُرى لي أثر ولا عين... عن قتادة "وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا": أي شيئا لا يعرف ولا يذكر...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قال قائلون: إنما تمنّت الموت للحال التي دُفعت إليها من الولادة من غير ذَكَرٍ. وهذا خطأ؛ لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيّرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله، وتسخُّطُ فِعْلِ الله وقضائه معصيةٌ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة، فعلمنا أنها لم تتمنَّ الموت لهذا المعنى وإنما تمنّته لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها، فتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يعصي الناسُ الله بسببها.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أَلَجَأَها وَجَعُ الولادةِ إلى الاعتماد إلى جِذْع النخلة. ولمَّا أَخذها الطَلْقُ، ودَاخَلَهَا الخَجَلُ مِنْ قومِها نَطَقَتْ بلسانِ العَجزِ، وقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَأَجَاءهَا} أجاء: منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه... «المخَاضُ» يقال: مخضت الحامل مَخاضا ومِخاضاً، وهو تمخض الولد في بطنها.

طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة... والتعريف لا يخلو: إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس، أي: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها. ولأن النخلة أقل شيء صبراً على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. {قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا}... النسيّ: ما من حقه أن يطرح وينسى... تمنت لو كانت شيئاً تافها لا يؤبه له، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر من الناس على حكم العادة البشرية، لا كراهة لحكم الله، أو لشدّة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس -لجهلهم به- عيباً يعاب به ويعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

المخاض اشتداد وجع الولادة والطلق. الجذع ما بين الأرض التي فيها الشجرة منها وبين متشعب الأغصان، ويقال للغصن أيضاً جذع...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله: {فأجاءها} أي فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته! فكيف إذا كانت يابسة! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك...

ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل: يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار: {ياليتني مت} و لما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: {قبل هذا} أي الأمر العظيم {وكنت نسياً} أي شيئاً من شأنه أن ينسى {منسياً} أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسيا منسيا فلا تذكر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي (أجاءها) إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء.. فإذا هي قالت: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت (نسيا): تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وجملة {قَالَتْ} استئناف بياني، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها. وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية. ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها، أي ليتني كنت شيئاً غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إذن: فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر لا تستطيع إخفاءه، ولا تقدر على ستره، فقد قبلت قبل ذلك أن يبشرها الملك بغلام زكي، وقبلت أن تحمل به، فكيف بها الآن وقد تحول الأمر من الكلام إلى الواقع الفعلي، وها هو الوليد في أحشائها، وقد حان موعد ولادته؟. لابد أن ينتابها نزوع انفعالي قد خرج عن نطاق الستر والتكتم، فإذا بها تقول: {يا ليتني مت قبل هذا ونت نسياً منسياً} أي: تمنت لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف العصيب، مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن الله سيهب لها غلاماً زكياً تعجبت قائلة: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}. مجرد تعجب وانفعال هادئ، أما وقد أصبح الأمر ولادة حقيقية فلابد من فعل نزوعي شديد يعبر عما هي فيه من حيرة، لذلك تمنت الموت، مع أن الله تعالى نهانا عن تمني الموت.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وتحرك الضعف الأنثوي فيها ليثير في داخلها الإحساس بالعجز عن مواجهة هذا الحدث الذي لا تملك أن تدافع عن طبيعته أمام الناس، فهم لا يفهمون سرَّ الإعجاز الإلهي الكامن فيه، بل يرون فيه مظهر انحراف في أخلاقيتها وسقوط في شرفها، ونقص في عفتها، لما توحي به أمثال هذه الحادثة من وجود علاقةٍ غير شرعية، ما دام احتمال نشوء المولود عن علاقةٍ زوجيةٍ معلنةٍ أمراً غير وارد في الموضوع. وشعرت أن المسألة أكبر من طاقتها لا سيما وهي تعيش الوحدة، فلا أنيس تأنس به وتشكو إليه همومها الجديدة ليخفف عنها، ولا صديق تبحث معه مشكلتها ليساعدها في الحل، فأطلقت صرخة الإنسان الضعيف المسحوق الذي شعر في لحظةٍ كما لو أن الحياة عبء ثقيل عليه، لأنها تحشره في زاوية ضيقة من التجربة الصعبة التي لا يستطيع الخروج منها، أو السيطرة عليها. وكانت تواجه نتيجة هذا الموقف وضعاً اجتماعياً بالغ الصعوبة يهدد سمعتها وكرامتها وموقعها؛ وهكذا {قَالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} حتى لا أواجه نظرات الاتهام القاسية..

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لقد كان هذا الاضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إِرادة و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً). إِنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإِن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أُخرى، إِلاّ أنّ مشاكل ومصائب أُخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للاستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأُمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.