قوله تعالى : { الذين يؤمنون } موضع الذين خفض نعتاً للمتقين . يؤمنون : يصدقون ويترك الهمزة أبو عمرو وورش ، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن ، إلا أحرفاً معدودة . وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، قال الله تعالى : " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق لنا ، وهو في الشريعة : الاعتقاد بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فسمي الإقرار والعمل إيماناً ، لوجه من المناسبة ، لأنه من شرائعه : والإسلام : هو الخضوع والانقياد ، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً ، إذا لم يكن معه تصديق ، قال الله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن ، ويكون مصدقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام ، وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد التوبة الزراد البخاري : أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، ثنا أبو أحمد عيسى ، بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر ، يعني بالبصرة ، معبد الجهني ، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ما يقول هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر ، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه ، يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أفق قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء ، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره . ثم قال : حدثنا عمر بن الخطاب قال : " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، ما يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبته تمس ركبته فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، فقال : صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه . ثم قال : فما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وحده . وملائكته وكتبه ورسله ، وبالبعث بعد الموت والجنة والنار ، وبالقدر خيره وشره فقال : صدقت . ثم قال : فما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال : صدقت ثم قال : فأخبرني عن الساعة ؟ فقال : ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل ، قال : صدقت قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال : صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر هل تدري من الرجل ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه " .
قال الفراء : فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسماً لما ظهر من الأعمال ، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد ، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام ، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال : ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ؛ والدليل على أن الأعمال من الإيمان ، ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاة ، ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ، ثنا بشر بن موسى ، ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " .
قيل : الإيمان مأخوذ من الأمان ، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله ، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه .
قوله تعالى : { بالغيب } . والغيب مصدر وضع موضع الاسم ، فقيل للغائب غيب كما قيل للعادل عدل وللزائر زور ، والغيب ما كان مغيباً عن العيون ، قال ابن عباس : الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به ، فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان ؛ وقيل الغيب هاهنا : هو الله تعالى ، وقيل : القرآن ، وقال الحسن : بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريح : بالوحي . نظيره أعنده علم الغيب وقال ابن كيسان : بالقدر . وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ آلم ذلك الكتاب إلى قوله المفلحون . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ، وورش يؤمنون بترك الهمزة ، وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة ، إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم ، نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وتسؤكم وإن نشأ وننسأها ونحوها . أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى ، نحو مؤصدة ورئياً ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل ، إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل إلا الرؤيا وبابه ، إلا ما كان على وزن فعل .
قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها ، وأركانها وهيئاتها ، يقال : قام بالأمر ، وأقام الأمر ، إذا أتى به معطيا حقوقه ، أو المراد بها الصلوات الخمس ، ذكر بلفظ الواحد ، كقوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) يعني الكتب .
والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : ( فصل عليهم ) أي ادع لهم ، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء . وقيل في قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن المؤمنين : الدعاء .
قوله تعالى : { ومما رزقناهم } أي أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد ، وأصله في اللغة الحظ والنصيب .
{ ينفقون } يتصدقون ، قال قتادة : ينفقون في سبيل الله وطاعته . وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد والملك ، ومنه نفاق السوق ، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد ، ومنه : نفقت الدابة إذا أخرجت روحها . فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب .
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة ، والأعمال الظاهرة ، لتضمن التقوى لذلك فقال : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } حقيقة الإيمان : هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل ، المتضمن لانقياد الجوارح ، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس ، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر . إنما الشأن في الإيمان بالغيب ، الذي لم نره ولم نشاهده ، وإنما نؤمن به ، لخبر الله وخبر رسوله . فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر ، لأنه تصديق مجرد لله ورسله . فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله ، سواء شاهده ، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله ، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه . بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية ، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم ، ومرجت أحلامهم . وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله .
ويدخل في الإيمان بالغيب ، [ الإيمان ب ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة ، وأحوال الآخرة ، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها ، [ وما أخبرت به الرسل من ذلك ] فيؤمنون بصفات الله ووجودها ، ويتيقنونها ، وإن لم يفهموا كيفيتها .
ثم قال : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } لم يقل : يفعلون الصلاة ، أو يأتون بالصلاة ، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة . فإقامة الصلاة ، إقامتها ظاهرا ، بإتمام أركانها ، وواجباتها ، وشروطها . وإقامتها باطنا{[32]} بإقامة روحها ، وهو حضور القلب فيها ، وتدبر ما يقوله ويفعله منها ، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وهي التي يترتب عليها الثواب . فلا ثواب للإنسان{[33]} من صلاته ، إلا ما عقل منها ، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها .
ثم قال : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، والمماليك ونحو ذلك . والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير . ولم يذكر المنفق عليهم ، لكثرة أسبابه وتنوع أهله ، ولأن النفقة من حيث هي ، قربة إلى الله ، وأتى ب " من " الدالة على التبعيض ، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم ، غير ضار لهم ولا مثقل ، بل ينتفعون هم بإنفاقه ، وينتفع به إخوانهم .
وفي قوله : { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ، ليست حاصلة بقوتكم وملككم ، وإنما هي رزق الله الذي خولكم ، وأنعم به عليكم ، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده ، فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم ، وواسوا إخوانكم المعدمين .
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن ، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود ، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده ، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود ، وسعيه في نفع الخلق ، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه ، فلا إخلاص ولا إحسان .
ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .
والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . . الخ ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .
والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل . قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :
والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .
ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .
والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .
قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " . قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أولئك قوم آمنوا بالغيب " تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } . الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلى إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت . ومعنى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .
وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة . أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .
والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .
وإيراد " من " في قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .
هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .
فببذل المال تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء . قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين :
( الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون ) . .
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب ، والقيام بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة ، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ، ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة ، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام .
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا . .
( الذين يؤمنون بالغيب ) . . فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا الوجود ؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول .
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول . فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول . . فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا ، ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال . . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى ، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل ؛ وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين .
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا " تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة ، صفة : ( الذين يؤمنون بالغيب ) والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين !
( ويقيمون الصلاة ) . . فيتجهون بالعبادة لله وحده ، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد ، وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد ؛ والقلب الذي يسجد لله حقا ، ويتصل به على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق . . وهذا كله مصدر قوة للضمير ، كما أنه مصدر تحرج وتقوى ، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ، ربانية الشعور ، ربانية السلوك .
( ومما رزقناهم ينفقون ) . . فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم ، لا من خلق أنفسهم ؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ، وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار ومخالب ونيوب !
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله [ ص ] بإسناده لفاطمة بنت قيس " إن في المال حقا سوى الزكاة " . . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة
قال أبو جعفر الرازي ، عن العلاء بن المسيب بن رافع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الإيمان التصديق .
وقال علي بن أبي طلحة وغيره ، عن ابن عباس ، { يُؤْمِنُونَ } يصدقون .
وقال مَعْمَر عن الزهري : الإيمان العمل .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { يُؤْمِنُونَ } يخشون .
قال ابن جرير وغيره : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا وعملا قال : وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان ، الذي هو تصديق القول بالعمل ، والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل . قلت : أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض ، وقد يستعمل في القرآن ، والمراد به ذلك ، كما قال تعالى : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] ، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] ، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال ؛ كقوله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الإنشقاق : 25 ، والتين : 6 ] ، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا .
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة ، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا{[1175]} الكلام فيها في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة .
ومنهم من فسره بالخشية ، لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [ الملك : 12 ] ، وقوله : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33 ] ، والخشية خلاصة الإيمان والعلم ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] .
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد .
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كله .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي{[1176]} صلى الله عليه وسلم : أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة ، وأمر النار ، وما ذكر في القرآن .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { بِالْغَيْبِ } قال : بما جاء منه ، يعني : مِنَ الله تعالى .
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زِرّ ، قال : الْغَيْب القرآن .
وقال عطاء بن أبي رباح : من آمن بالله فقد آمن بالغيب .
وقال إسماعيل بن أبي خالد : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بغيب الإسلام .
وقال زيد بن أسلم : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بالقدر . فكل هذه متقاربة في معنى واحد ؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد{[1177]} قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، قال : فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلى قوله : { الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 1 - 5 ]{[1178]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[1179]} .
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [ الإمام ]{[1180]} أحمد ، حدثنا أبو المغيرة ، أخبرنا الأوزاعي ، حدثني أسيد{[1181]} بن عبد الرحمن ، عن خالد بن دُرَيك ، عن ابن مُحَيريز ، قال : قلت لأبي جمعة : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم ، أحدثك حديثًا جيدًا : تغدينا{[1182]} مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح ، فقال : يا رسول الله ، هل أحد{[1183]} خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك . قال : «نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني »{[1184]} .
طريق أخرى : قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن صالح بن جُبَيْر ، قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ، ليصلي فيه ، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة ، فلما انصرف{[1185]} خرجنا نشيعه ، فلما أراد الانصراف قال : إن لكم جائزة وحقا ، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة ، فقلنا : يا رسول الله ، هل من قوم أعظم أجرًا منا ؟ آمنا بك واتبعناك ، قال : «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجرا » مرتين{[1186]} .
ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة ، عن مرزوق بن نافع ، عن صالح بن جبير ، عن أبي جمعة ، بنحوه{[1187]} .
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث ، كما قررته في أول شرح البخاري ؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا .
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي : حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي ، عن المغيرة بن قيس التميمي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟ » . قالوا : الملائكة . قال : «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ » . قالوا : فالنبيون . قال : «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ » . قالوا : فنحن . قال : «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ » . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها »{[1188]} .
قال أبو حاتم الرازي : المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث .
قلت : ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده ، وابن مردويه في تفسيره ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن أبي حميد ، وفيه ضعف ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله أو نحوه . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[1189]} وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا{[1190]} ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري ، أخبرني جعفر بن محمود ، عن جدته تويلة{[1191]} بنت أسلم ، قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء{[1192]} ، فصلينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت{[1193]} الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون{[1194]} البيت الحرام .
قال إبراهيم : فحدثني رجال من بني حارثة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال : «أولئك قوم آمنوا بالغيب »{[1195]} .
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومما رزقناهم ينفقون }
قال ابن عباس : أي : يقيمون الصلاة بفروضها .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إقامة{[1196]} الصلاة إتمام{[1197]} الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها .
وقال قتادة : إقامة{[1198]} الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها ، وركوعها وسجودها .
وقال مقاتل بن حيان : إقامتها : المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الطهور فيها{[1199]} وتمام ركوعها وسجودها{[1200]} وتلاوة القرآن فيها ، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا إقامتها .
وقال علي بن أبي طلحة ، وغيره عن ابن عباس : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال : زكاة أموالهم .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله{[1201]} صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال : هي نفقة الرجل على أهله ، وهذا قبل أن تنزل الزكاة .
وقال جُوَيْبر ، عن الضحاك : كانت النفقات قربات{[1202]} يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم ، حتى نزلت فرائض الصدقات : سبعُ آيات في سورة براءة ، مما يذكر فيهن الصدقات ، هن الناسخات المُثْبَتَات .
وقال قتادة : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله ، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم ، يوشك أن تفارقها .
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات ، فإنه قال : وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم : أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين ، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته ، من أهل أو عيال وغيرهم ، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك ؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك ، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه .
قلت : كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال ، فإن الصلاة حق الله وعبادته ، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ، وتمجيده والابتهال إليه ، ودعائه والتوكل عليه ؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ، ثم الأجانب ، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بُنِيَ الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت »{[1203]} . والأحاديث في هذا كثيرة .
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء ، قال الأعشى :
لها حارس لا يبرحُ الدهرَ بَيْتَها *** وإن ذُبحَتْ صلى عليها وزَمْزَما{[1204]}
وقال أيضًا{[1205]} وقابلها الريح في دَنّها *** وصلى على دَنّها وارتسم{[1206]}
أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك .
وقال الآخر - وهو الأعشى أيضًا - :
تقول بنتي وقد قَرَّبتُ مرتحلا *** يا رب جنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا
عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي *** نوما فإن لِجَنب المرء مُضْطجعا
يقول : عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي . وهذا ظاهر ، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة ، بشروطها المعروفة ، وصفاتها ، وأنواعها [ المشروعة ]{[1207]} المشهورة .
وقال ابن جرير : وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة ؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله ، مع ما يسأل ربه من{[1208]} حاجته{[1209]} .
[ وقيل : هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند{[1210]} الركوع ، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا{[1211]} عجب الذنب ، ومنه سمي المصلي ؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل ، وفيه نظر ، وقيل : هي مشتقة من الصلى ، وهو الملازمة للشيء من قوله : { لا يَصْلاهَا } أي : يلزمها ويدوم فيها { إِلا الأشْقَى } [ الليل : 15 ] وقيل : مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم ، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر ، والله أعلم ]{[1212]} .