معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

قوله تعالى : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } . موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك .

قوله تعالى : { ومن ذريتنا } . أي أولادنا .

قوله تعالى : { أمة } . جماعة والأمة أتباع الأنبياء .

قوله تعالى : { مسلمة لك } . خاضعة لك .

قوله تعالى : { وأرنا } . علمنا وعرفنا ، قرأ ابن كثير ساكنة الراء ، وأبو عمرو بالاختلاس ، والباقون بكسرها ، ووافق ابن عامر وأبو بكر في الإسكان في حم السجدة ، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلباً للخفة ونقلت حركتها إلى الراء ، ومن سكنها قال : ذهبت الهمزة فذهبت حركتها .

قوله تعالى : { مناسكنا } . شرائع ديننا وأعلام حجنا . وقيل : مواضع حجنا ، وقال مجاهد : مذابحنا والنسك الذبيحة ، وقيل : متعبداتنا ، وأصل النسك العبادة ، والناسك العابد ، فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة ، فلما بلغ عرفات قال : عرفت يا إبراهيم ؟ قال : نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات .

قوله تعالى : { وتب علينا } . تجاوز عنا . { إنك أنت التواب الرحيم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

ودعوا لأنفسهما ، وذريتهما بالإسلام ، الذي حقيقته ، خضوع القلب ، وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح . { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة ، ليكون أبلغ . يحتمل أن يكون المراد بالمناسك : أعمال الحج كلها ، كما يدل عليه السياق والمقام ، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله ، والعبادات كلها ، كما يدل عليه عموم اللفظ ، لأن النسك : التعبد ، ولكن غلب على متعبدات الحج ، تغليبا عرفيا ، فيكون حاصل دعائهما ، يرجع إلى التوفيق للعلم النافع ، والعمل الصالح ، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير ، ويحتاج إلى التوبة قالا : { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات ، التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله - تعالى - فقال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } :

مسلمين من الإِسلام ، وهو الخضوع والإِذعان ، وقد كانا خاضعين لله مذعنين في كل حال ، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك ، والإِسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد ، وتحرى ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات ، والإِخلاص في أداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه .

وقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } معناه : واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك ، مذعنة لأوامرك ونواهيك .

ومن ( من ) للتبعيض ، أو للتعيين كقوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ؛ ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً ، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعاً ، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله - تعالى - :

{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا ، كالطواف والسعي والوقوف . أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعنا ، كمنى ، وعرفات ، وتحوهما .

والمناسك : جمع منسك - بفتح السين وكسرها - بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك - مثلثة النون وبضمها وضم السين - وهو غاية العبادة والطاعة ، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعي وغيرهما .

{ وَتُبْ عَلَيْنَآ } تسند التوبة إلى العبد فيقال : تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب ، والإِقلاع عنه ، والعزم على عدم العود إليه ، ورد المظالم إن استطاع ، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال : تاب الله على فلان ، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة ، أو قبولها منه . فمعنى { وَتُبْ عَلَيْنَآ } وفقنا للتوبة أو تقبلها منا .

والتوبة تكون من الكبائر والصغائر ، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدي إلى خطأ في الاجتهاد ، وعلى أحد هذين الوجهين ، تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها .

{ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } التواب : كثير القبول لتوبة المنيبين إليه ، وقبول توبتهم يقتضي عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات ، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان .

وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد طلبا قبول توبتهما صراحة في قولهما { وَتُبْ عَلَيْنَآ } ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم ، إذ الرحمة صفة من أثرها الإِحسان ، فكأنهما قالا : تب علينا وارحمنا ، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

124

( ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) .

إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام ؛ والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن ؛ وأن الهدى هداه ، وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله ، فهما يتجهان ويرغبان ، والله المستعان .

ثم هو طابع الأمة المسلمة . . التضامن . . تضامن الأجيال في العقيدة : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) . .

وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن . إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل ، وهو همه الأول . وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما . . نعمة الإيمان . . تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما ، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام . . لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان ؛ وأن يريهم جميعا مناسكهم ، ويبين لهم عباداتهم ، وأن يتوب عليهم . بما أنه هو التواب الرحيم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ }

وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان : { رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } يعنيان بذلك : واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك ، لا نُشْرِك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك . وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الإسلام الخضوع لله بالطاعة .

وأما قوله : { وَمِنْ ذَرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ } فإنهما خَصّا بذلك بعض الذرية لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه أن من ذرّيته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره ، فخصا بالدعوة بعض ذرّيتهما . وقد قيل إنهما عنيا بذلك العرب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَمِنْ ذُرّيَتِنَا أمّةً مُسْلِمَةً لَكَ } يعنيان العرب . وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب على خلافه لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والمستجيبين لأمره ، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب ، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين فلا وجه لقول من قال : عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد . وأما الأمة في هذا الموضع ، فإنه يعني بها الجماعة من الناس ، من قول الله : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أمّةٌ يهْدُونَ بالحقّ } .

القول في تأويل قوله تعالى : وأرِنا مَناسِكَنا .

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وأرنا مَناسِكَنا } بمعنى رؤية العين ، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها . وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة ، وكان بعض من يوجّه تأويل ذلك إلى هذا التأويل يسكن الراء من «أرْنا » ، غير أنه يُشِمّها كسرة .

واختلف قائل هذه المقالة وقراء هذه القراءة في تأويل قوله : مَناسِكَنا فقال بعضهم : هي مناسك الحجّ ومعالمه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأرِنا مَناسِكَنا فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والإفاضة من عرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار ، حتى أكمل الله الدين أو دينه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { وأرِنا مَناسِكَنا } قال : أرنا نُسكنا وحَجّنا .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي فقال : { وأَذّنْ فِي النّاسِ بالحَجّ } فنادى بين أخشبي مكة : يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تحجوا بيته . قال : فوقرت في قلب كل مؤمن ، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة : لبيك لبيك فأجابوه بالتلبية : لبيك اللهمّ لبيك وأتاه من أتاه . فأمره الله أن يخرج إلى عرفات ونَعَتَها فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان ، فرماه بسبع حَصَيَاتٍ يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا ، فصدّه فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر . فلما رأى أنه لا يُطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى ذا المجاز ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا المجاز . ثم انطلق حتى وقع بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : قد عرفتُ فسميت عرفات . فوقف إبراهيم بعرفات . حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت المزدلفة . فوقف بجمع . ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أوّل مرّة فرماه بسبع حصيات سبع مرّات ، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحجّ وأمرِه . وذلك قوله : { وأرنَا مَناسِكَنا } .

وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة : المناسك المذابح . فكان تأويل هذه الآية على قول من قال ذلك : وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { وأرِنا مَناسِكَنا } قال : ذَبْحَنا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : مذابحنا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : { وأرِنا مَنَاسِكَنَا } قال : أرنا مذابحنا .

وقال آخرون : { وأرْنا مَناسِكَنا } بتسكين الراء . وزعموا أن معنى ذلك : وعلّمنا ودُلّنا عليها ، لا أن معناها أرناها بالأبصار . وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يَعْفر أخي الأسود بن يعفر :

أرينِي جَوَادا ماتَ هُزْلاً لأَنّنِي أرَى ما تَرَينَ أوْ بَخِيلاً مُخلّدا

يعني بقوله أريني : دليني عليه وعرّفيني مكانه ، ولم يَعْنِ به رؤية العين . وهذه قراءة رُويت عن بعض المتقدّمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : { أرِنا مَناسِكَنا }أخرجها لنا ، علمناها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال ابن المسيب : قال عليّ بن أبي طالب : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ، قال : فعلت أي ربّ فأرنا مناسكنا ، أبرزها لنا ، علمناها فبعث الله جبريل فحجّ به .

والقول واحد ، فمن كسر الراء جعل علامة الجزم سقوط الياء التي في قول القائل أرنيه أرنه ، وأقرّ الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم . ومن سكن الراء من «أرْنا » توهم أن إعراب الحرف في الراء فسكنها في الجزم كما فعلوا ذلك في لم يكن ولم يَكُ . وسواء كان ذلك من رؤية العين ، أو من رؤية القلب . ولا معنى لفَرْقِ من فَرَق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب .

وأما المناسك فإنها جمع «مَنْسِك » ، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه ، ويتقرّب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح إما بذبح ذبيحة له ، وإما بصلاة أو طواف أو سعي ، وغير ذلك من الأعمال الصالحة ولذلك قيل لمشاعر الحجّ مناسكه ، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس ، ويتردّدون إليها .

وأصل المَنْسِك في كلام العرب : الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، يقال : لفلان منسك ، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شرّ ولذلك سميت المناسك مناسك ، لأنها تُعتاد ويتردّد إليها بالحجّ والعمرة ، وبالأعمال التي يتقرّب بها إلى الله . وقد قيل : إن معنى النسك : عبادة الله ، وأن الناسك إنما سمي ناسكا بعبادة ربه ، فتأوّل قائل هذه المقالة قوله : وأرِنا مَناسِكَنا وعَلّمْنا عبادتك كيف نعبدك ، وأين نعبدك ، وما يرضيك عنا فنفعله . وهذا القول وإن كان مذهبا يحتمله الكلام ، فإن الغالب على معنى المناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الحجّ التي ذكرنا معناها . وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما ، وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذرّيتهما المسلمين ، فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما صارا كالمخبرين عن أنفسهم بذلك . وإنما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قَبْلُ في أوّل الآية ، وتأخره بعد في الآية الأخرى .

فأما الذي في أول الآية فقولهما : { رَبّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ } . ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا : { وأرِنا مَناسِكَنا } .

وأما التي في الآية التي بعدها : { رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } فجعلا المسألة لذريتهما خاصة . وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود : «وأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ » ، يعني بذلك : وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنّكَ أنْتَ التّوابُ الرّحِيمُ } .

أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب ، فتوبة العبد إلى ربه : أوبته مما يكرهه الله منه بالندم عليه والإقلاع عنه ، والعزم على ترك العود فيه . وتوبة الربّ على عبده : عوده عليه بالعفو له عن جُرْمه والصفح له عن عقوبة ذنبه ، مغفرةً له منه ، وتفضلاً عليه .

فإن قال لنا قائل : وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة ؟ قيل : إنه ليس أحد من خلق الله إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة . فجائز أن يكون ما كان من قيلهما ما قالا من ذلك ، وإنما خَصّا به الحال التي كانا عليها من رفع قواعد البيت ، لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما ، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما ، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تَنَصّل من الذنوب إلى الله . وجائز أن يكونا عنيا بقولهما : وتب علينا وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا ، الذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم وشركهم ، حتى ينيبوا إلى طاعتك . فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما ، والمعنيّ به ذريتهما ، كما يقال : أكرمني فلان في ولدي وأهلي ، وبرّني فلان : إذا برّ ولده .

وأما قوله : إِنّكَ أنْتَ التواب الرّحِيمُ فإنه يعني به : إنك أنت العائد على عبادك بالفضل والمتفضل عليهم بالعفو والغفران ، الرحيم بهم ، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكتك ، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } مخلصين لك ، من أسلم وجهه ، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد ، والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ، أو الثبات عليه . وقرئ { مسلمين } على أن المراد أنفسهما وهاجر . أو أن التثنية مراتب الجمع . { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } أي واجعل بعض ذريتنا ، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، وخصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة ، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى ، فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لولا الحمقى لخربت الدنيا ، وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم } قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : { خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } . { وأرنا } من رأى بمعنى أبصر ، أو عرف ، ولذلك لم يتجاوز مفعولين { مناسكنا } متعبداتنا في الحج ، أو مذابحنا . والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة . وقرأ ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو ويعقوب { أرنا } ، قياسا على فخذ ، في فخذ وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها . وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس { وتب علينا } استتابة لذريتهما ، أو عما فرط منهما سهوا . ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشادا لذريتهما { إنك أنت التواب الرحيم } لمن تاب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

فائدة تكرير النداء بقوله : { ربنا } إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي : { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] .

والمراد بمسلميْن لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاماً سيأتي عند قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، وأما قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوماً وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان .

ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماماً للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً } في سورة آل عمران ( 67 ) .

ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله : { إذ قال له ربه أسلم } [ البقرة : 131 ] الآية .

وقوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يتعين أن يكون { من ذريتنا } و { مسلمة } معمولين لفعل { واجعلنا } بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و ( من ) في قوله : { ومن ذريتنا } للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعاً بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمماً كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة ، وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] .

ومن هنا ابتدىء التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين المحمدي .

والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلاً للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي بزنة فُعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليا قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية ، وأما قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } [ الأنعام : 38 ] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه .

وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وأما من أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة .

وقوله : { وأرنا مناسكنا } سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمراً مجملاً ، ففعل { أرنا } هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في « المفردات » والزمخشري في « المفصل » وتعدت بالهمز إلى مفعولين . وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازاً في العلم بجعل العلم اليقيني شبيهاً برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولاً ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماماً للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعاً مثلاً ثم يقول : أراني فلان الهلال طالعاً ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد رُوي قولُ الفِنْد الزِّمّاني :

عَسَى أن يُرجِعَ الأيّا *** مُ قَوْماً كالذي كانوا

وقال حَطائط بن يَعْفُر :

أَرِيني جَواداً مات هُزْلاً لعلَّني*** أَرى ما ترين أو بخيلاً مُخَلَّدا

فإن جملة مات هزلاً ليست خبراً عن جواداً إذ المبتدأ لايكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالاً لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة .

وقرأ ابن كثير ويعقوب { وأرْنا } بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفاً أيضاً ، وجملة { إنك أنت التواب الرحيم } تعليل لجمل الدعاء .

والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نَسكاً من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقرباً ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قالا: {ربنا واجعلنا مسلمين لك}: مخلصين لك.

{ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا}: علمنا مناسكنا... {وأرنا مناسكنا} فنصلي لك.

{وتب علينا}: إبراهيم وإسماعيل أنفسهما.

{إنك أنت التواب الرحيم}: ففعل الله عز وجل ذلك به، فنزل جبريل، عليه السلام، فانطلق بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلمه كيف يسأل ربه، فلما أراه الله المناسك والمشاعر، علم أن الله عز وجل سيجعل في ذريتهما أمة مسلمة كما سألا ربهما، فقالا عند ذلك: {ربنا وابعث فيهم}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان: {رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك، لا نُشْرِك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الإسلام الخضوع لله بالطاعة.

وأما قوله: {وَمِنْ ذَرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فإنهما خَصّا بذلك بعض الذرية لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه أن من ذرّيته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره، فخصا بالدعوة بعض ذرّيتهما. وقد قيل إنهما عنيا بذلك العرب... وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب على خلافه، لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والمستجيبين لأمره، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد. وأما الأمة في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، من قول الله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أمّةٌ يهْدُونَ بالحقّ}.

"وأرِنا مَناسِكَنا": اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {وأرنا مَناسِكَنا} بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة، وكان بعض من يوجّه تأويل ذلك إلى هذا التأويل يسكن الراء من «أرْنا»، غير أنه يُشِمّها كسرة.

واختلف قائل هذه المقالة وقراء هذه القراءة في تأويل قوله: "مَناسِكَنا "فقال بعضهم: هي مناسك الحجّ ومعالمه... عن قتادة قوله: "وأرِنا مَناسِكَنا": فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين أو دينه...

وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة: المناسك: المذابح. فكان تأويل هذه الآية على قول من قال ذلك: وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك.

وقال آخرون: {وأرْنا مَناسِكَنا} بتسكين الراء. وزعموا أن معنى ذلك: وعلّمنا ودُلّنا عليها، لا أن معناها أرِناها بالأبصار... وهذه قراءة رُويت عن بعض المتقدّمين... قال عطاء: {أرِنا مَناسِكَنا}: أخرجها لنا، علمناها.

والقول واحد، فمن كسر الراء جعل علامة الجزم سقوط الياء التي في قول القائل أرنيه أرنه، وأقرّ الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن الراء من «أرْنا» توهم أن إعراب الحرف في الراء فسكنها في الجزم كما فعلوا ذلك في لم يكن ولم يَكُ. وسواء كان ذلك من رؤية العين، أو من رؤية القلب. ولا معنى لفَرْقِ من فَرَّق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب.

وأما المناسك فإنها جمع «مَنْسِك»، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرّب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة ولذلك قيل لمشاعر الحجّ مناسكه، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويتردّدون إليها.

وأصل المَنْسِك في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال: لفلان منسك، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شرّ ولذلك سميت المناسك مناسك، لأنها تُعتاد ويتردّد إليها بالحجّ والعمرة، وبالأعمال التي يتقرّب بها إلى الله. وقد قيل: إن معنى النسك: عبادة الله، وأن الناسك إنما سمي ناسكا بعبادة ربه، فتأوّل قائل هذه المقالة قوله: "وأرِنا مَناسِكَنا": وعَلّمْنا عبادتك كيف نعبدك، وأين نعبدك، وما يرضيك عنا فنفعله. وهذا القول وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى المناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الحجّ التي ذكرنا معناها. وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما، وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذرّيتهما المسلمين، فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما صارا كالمخبرين عن أنفسهم بذلك. وإنما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قَبْلُ في أوّل الآية، وتأخره بعد في الآية الأخرى.

فأما الذي في أول الآية فقولهما: {رَبّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ}. ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا: {وأرِنا مَناسِكَنا}. وأما التي في الآية التي بعدها: {رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} فجعلا المسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود: «وأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ»، يعني بذلك: وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم.

{وَتُبْ عَلَيْنَا إِنّكَ أنْتَ التّوابُ الرّحِيمُ}: أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد إلى ربه: أوبته مما يكرهه الله منه بالندم عليه والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الربّ على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جُرْمه والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرةً له منه، وتفضلاً عليه.

فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟ قيل: إنه ليس أحد من خلق الله إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قيلهما ما قالا من ذلك، وإنما خَصّا به الحال التي كانا عليها من رفع قواعد البيت، لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تَنَصّل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما: "وتب علينا": وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا، الذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما، والمعنيّ به ذريتهما، كما يقال: أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرّني فلان: إذا برّ ولده.

"إِنّكَ أنْتَ التواب الرّحِيمُ": إنك أنت العائد على عبادك بالفضل والمتفضل عليهم بالعفو والغفران، الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكتك، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

ويقال: إنه لم يدع نَبيُّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم، فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وإنما سألا الله تعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى: أن يفعل لهما من الألطاف ما يتمسكان معه بالإسلام في مستقبل عمرهما، لأن الإسلام كان حاصلا في وقت دعائهما... ويجوز أن يكونا قالا ذلك تعبدا كما قال تعالى: {رب احكم بالحق}...

{وتب علينا}... قيل: بل قالا: ذلك انقطاعا اليه "تعالى "تعبدا ليقتدى بهما فيه. وهو الذي نعتمده...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{مسلميْن}: منقادَيْن لحكمك حتى لا يتحرك مِنّا عرْق بغير رضاك، واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك لتقوم بعدنا مقامنا في القيام بحقوقك، وشتان بين من يطلب وارثاً لماله، وبين من يطلب نائباً بعده يقوم بطاعته في أحواله.

{وأرنا مناسكنا} إذ لا سبيل إلى معرفة الموافقات إلا بطريق التوفيق والإعلام.

{وتب علينا}: بعد قيامنا بجميع ما أَمَرْتَنَا حتى لا نلاحظ حركاتِنا وسكناتِنا، ونرجع إليه عن شهود أفعالنا لئلا يكونَ خطرُ الشِّرْك الخفيِّ في توهُّمِ شيءِ مِنّا بِنَا...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: لم خصّا ذرّيتهما بالدعاء؟ قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6]، ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير. ألا ترى أن المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد، كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وتب علينا}: قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين.

فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب، والرجوع عن الذنب، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن.

وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال.

وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة، وكان الضمير في قوله: {وتب علينا} خاصاً بهما، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير...

{إنك أنت التواب الرحيم}: يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما. فناسب ذكر التوبة عليهما، أو الرحمة لهما. وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله: {وتب علينا}.

وتأخرت صفة الرحمة لعمومها، لأن من الرحمة التوبة، ولكنها فاصلة. والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا، لأن قبلها {إنك أنت السميع العليم}، وبعدها:

{إنك أنت العزيز الحكيم}.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم، عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وهو قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ""

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما سأل القبول سأل الزيادة عليه بقوله: {ربنا} على ما مضى من طرز دعاء المقربين بإسقاط أداة البعد {واجعلنا} أي أنا وابني هذا الذي أعانني {مسلمين لك ومن ذريتنا}

قال الحرالي: لما تحقق مرجو الإيمان في ذريته في قوله: {من آمن منهم} [البقرة: 126] طلب التكملة بإسلام الوجه والمسألة له ولابنه ولمن رزق الإيمان من ذريته وذرية ابنه، فإن الإسلام لما كان ظاهر الدين كان سريع الانثلام لأجل مضايقة أمر الدنيا، وإنما يتم الإسلام بسلامة الخلق من يد العبد ولسانه والإلقاء بكل ما بيده لربه مما ينازع فيه وجود النفس ومتضايق الدنيا، ولذلك هو مطلب لأهل الصفوة في خاتمة العمر ليكون الخروج من الدنيا عن إلقاء للحق وسلام للخلق كما قال يوسف عليه السلام {توفني مسلماً} [يوسف: 101] وطلب بقوله: {أمة مسلمة لك} أن يكونوا بحيث يؤم بعضهم بعضاً...

ولما كان المسلم مضطراً إلى العلم قال: {وأرنا مناسكنا} وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج حيث كان متلقى عن الله بلا واسطة لكونه علماً على آتي يوم الدين حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد. والمنسك مفعل من النسك وهو ما يفعل قربة وتديناً. تشارك حروفه حرف السكون -قاله الحرالي...

ولما كان الإنسان محل العجز فهو أضر شيء إلى التوفيق قال: {وتب علينا} إنباء بمطلب التوبة إثر الحسنة كما هو مطلب العارفين بالله المتصلين بالحسنات رجّعا بها إلى من له الخلق والأمر.

ثم علل طمعه في ذلك بأن عادته تعالى التطول والفضل فقال: {إنك أنت التواب} أي الرّجاع بعباده إلى موطن النجاة من حضرته بعد ما سلط عليهم عدوهم بغوايته ليعرفوا فضله عليهم وعظيم قدرته ثم أتبعه وصفاً هو كالتعليل له فقال: {الرحيم}...

تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :

{وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعاً وتعليماً لذريتهما.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ربنا واجعلنا مسلمين لك} المسلم والمسلّم والمستسلم واحد وهو المنقاد الخاضع والمراد بالكلمة ما يشمل التوحيد والإخلاص لله تعالى في الاعتقاد والعمل جميعا ومعنى الأول – أي الإخلاص في الاعتقاد – أن لا يتوجه المسلم بقلبه إلا إلى الله ولا يستعين بأحد فيما وراء الأسباب الظاهرة إلا بالله، ومعنى الثاني أن يقصد بعمله مرضاة الله تعالى لا اتباع الهوى وإرضاء الشهوة، وإنما يرضيه تعالى منا أن تزكى نفوسنا بمكارم الأخلاق، وترقى عقولنا بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبرهان، فبذلك نكون محل عنايته تعالى ومستودع معرفته وموضع كرامته، ومن يقصد بأعماله إرضاء شهوته واتباع هواه لا يزيد نفسه إلا خبثا، وبذلك يكون بعيدا عن الإسلام ويصدق عليه وقوله {25: 43 أرأيت من اتخذا إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا؟}

وقد يقال: إن الإنسان يندفع لمعظم الأعمال بسائق طلب المنفعة واللذة وهو سائق فطري، فكيف ينافيه الإسلام وهو دين الفطرة. ومثاله طلب الغذاء لقوام الجسم يسوق إليه التلذذ بالطعام، ومثل ذلك طلب اللذات العقلية والأدبية فكيف يمكن أن يكون ما يطلب للذة خالصا لله وحده؟ والجواب: أن الإسلام قد حل هذه المسألة حلا لا يجده الإنسان في ديانة أخرى، ذلك أنه لم يحرم علينا إلا ما هو ضار بنا، ولم يوجب علينا إلا ما هو نافع لنا، وقد أباح لنا ما لا ضرر في فعله ولا في تركه من ضروب الزينة واللذة إذا قصد بها مجرد اللذة. وأما إذا قصد بها مع اللذة غرضا صحيحا وفعلت بنية صالحة فهي في حكم الطاعات التي يثاب عليها، ومن نية المرء الصالحة في الزينة والطيب أن يسر إخوانه بلقائه، وأن يظهر نعم الله عليه، وأن يتقرب إلى امرأته ويدخل السرور عليها، وإنما الهوى المذموم في الإسلام هو الهوى الباطل كأن يتزين الرجل ويتطيب للمفاخرة والمباهاة أو ليستميل إليه النساء الأجنبيات عنه، وبذلك تكون الزينة مذمومة شرعا "وإنما الأعمال بالنيات"...

قال الأستاذ الإمام: أضافا الذرية إلى ضمير الإثنين للدلالة على أن المراد الذرية التي تنسب إليهما معا وهي ما يكون من ولد إسماعيل، اللفظ ظاهر في هذا المعنى ويرجحه الحال والمحل الذي كان فيه، وعزم إبراهيم على أن يدع إسماعيل في بلاد العرب داعيا إلى توحيد الله، وإسلام القلب إليه، ويرجع هو إلى بلاد الشام، وكذلك الدعاة لهذه الذرية بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم كما سيأتي.

وقد استجاب الله تعالى دعاء إبراهيم وولده عليهما السلام، وجعل في ذريتهما أمة الإسلام، وبعث فيها منها خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وإلى هذا الدعاء الإشارة بقوله في سورة الحج {22: 78 ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام؛ والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن؛ وأن الهدى هداه، وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، والله المستعان...

ثم هو طابع الأمة المسلمة.. التضامن.. تضامن الأجيال في العقيدة: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك).. وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن. إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول. وشعور إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما.. نعمة الإيمان.. تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام.. لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان؛ وأن يريهم جميعا مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم. بما أنه هو التواب الرحيم...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فائدة تكرير النداء بقوله: {ربنا} إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي: {ربنا وابعث فيهم رسولاً} [البقرة: 129]...

ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماماً للحنيفية دين إبراهيم...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

ونحن نرى أن "من "بيانية، لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لا بأدناه، والمعنى: اجعل من ذريتنا أمة مسلمة، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة للبعض المختار منها، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع.

والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة.

والدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى: {وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} التوبة: الرجوع إلى الله تعالى، وتاب عليه بمعنى قبل التوبة، ومعنى {تب علينا}، اقبل توبتنا، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم، والتواب صيغة مبالغة من تائب، والمراد منها قبول التوبة، وكأن المعنى: إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين، كما قال تعالى في آية أخرى: {غافر الذنب وقابل التوب...3} [غافر، وإن قبول التوبة، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى، ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة، لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لا عن استحقاق.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هناك فرق بين أن تكلف بشيء فتفعله بحب، وأن تفعل شكلية التكليف وتخرج من عملك خروج الذي ألقى عن كاهله عبء التكليف.. في هذه الآية الكريمة دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل وكانا يقولان يا رب أنت أمرتنا أن نرفع القواعد من البيت وقد فعلنا ما أمرتنا.. وليس معنى ذلك أننا اكتفينا بتكليفك لنا لأننا نريد أن نذوق حلاوة التكليف منك مرات ومرات.. {ربنا واجعلنا مسلمين لك} نسلم كل أمورنا إليك. إن الإنسان لا يمكن أن ينتهي من تكليف ليطلب تكليفا غيره إلا إذا كان قد عشق حلاوة التكليف ووجد فيه استمتاعا.. ولا يجد الإنسان استمتاعا في التكليف إلا إذا استحضر الجزاء عليه.. كلما عمل شيئا استحضر النعيم الذي ينتظره على هذا العمل فطلب المزيد. والله يحب التوبة من عباده وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة.. لأن المعصية عندما تأخذ الإنسان من منهج الله لتعطيه نفعا عاجلا فإن حلاوة الإيمان إن كان مؤمنا ستجذبه مرة أخرى إلى الإيمان بعيدا عن المعاصي.. ولذلك قيل إن انتفعت بالتوبة وندمت على ما فعلت فإن الله لا يغفر لك ذنوبك فقط ولكن يبدل سيئاتك حسنات..

وقلنا أن تشريع التوبة كان وقاية للمجتمع كله من أذى وشر كبير.. لأنه لو كان الذنب الواحد يجعلك خالدا في النار ولا توبة بعده لتجبر العصاة وازدادوا شرا.. ولأصيب المجتمع كله بشرورهم، وليئس الناس من آخرتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". لذلك فمن رحمة الله سبحانه أنه شرع لنا التوبة ليرحمنا من شراسة الأذى والمعصية.

تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :

الفوائد:

... شدة افتقار الإنسان إلى ربه، حيث كرر كلمة: {ربنا}؛ وأنه بحاجة إلى ربوبية الله الخاصة التي تقتضي عناية خاصة.

...أن الإنسان مفتقر إلى تثبيت الله؛ وإلا هلك؛ لقوله تعالى: {واجعلنا مسلمين}؛ فإنهما مسلمان بلا شك: فهما نبيَّان؛ ولكن لا يدوم هذا الإسلام إلا بتوفيق الله؛ قال الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلًا * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74، 75].

...أهمية الإخلاص؛ لقوله تعالى: {مسلمين لك}: {لك} تدل على إخلاص الإسلام لله عزّ وجلّ، كما قال تعالى في آية أخرى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [البقرة: 112]...

...أن الإسلام يشمل كل استسلام لله سبحانه وتعالى، ظاهراً وباطناً.

... أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}؛ وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في آية أخرى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}؛ فالذرية صلاحها لها شأن كبير بالنسبة للإنسان.

... أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: {وأرنا مناسكنا} يعني: أعلمنا بها.

... أن الأصل في العبادات أنها توقيفية يعني: الإنسان لا يتعبد لله بشيء إلا بما شرع؛ لقوله تعالى: {وأرنا مناسكنا}.

... تحريم التعبد لله بما لم يشرعه؛ لأنهما دعَوَا الله عزّ وجلّ أن يريهما مناسكهما؛ فلولا أن العبادة تتوقف على ذلك لتَعبدا بدون هذا السؤال.

... افتقار كل إنسان إلى توبة الله؛ لقوله تعالى: {وتب علينا}؛ إذ لا يخلو الإنسان من تقصير.

... إثبات {التواب}، و {الرحيم} اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وما تضمناه من صفة.

... مشروعية التوسل إلى الله عزّ وجلّ بأسمائه، وصفاته؛ لأن قوله تعالى: {إنك أنت التواب الرحيم} تعليل للطلب السابق؛ فهو وسيلة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وهذه الطلبات المقدّسة حين الاشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة بحيث تشمل كل احتياجات الإِنسان المادية والمعنوية، وتفصح عن عظمة هذين النبيين الكبيرين...