قوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } ، بسط على واحد ، وضيق على الآخر ، وقلل وكثر . { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } ، من العبيد ، { فهم فيه سواء } ، أي : حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك . يقول الله تعالى : لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم به الحجة على المشركين . قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل ، فهل منكم أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله ؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ { أفبنعمة الله يجحدون } ، بالإشراك به ، وقرأ أبو بكر بالتاء ؛ لقوله { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } ، والآخرون بالياء ؛ لقوله : { فهم فيه سواء } .
{ 71 } { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
وهذا من أدلة توحيده ، وقبح الشرك به ، يقول تعالى : كما أنكم مشتركون بأنكم مخلوقون مرزوقون ، إلا أنه تعالى : { فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ } ، فجعل منكم أحرارا ، لهم مال وثروة ، ومنكم أرقاء لهم ، لا يملكون شيئا من الدنيا ، فكما أن سادتهم الذين فضلهم الله عليهم بالرزق ليسوا : { بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } ، ويرون هذا من الأمور الممتنعة ، فكذلك من أشركتم بها مع الله ، فإنها عبيد ليس لها من الملك مثقال ذرة ، فكيف تجعلونها شركاء لله تعالى ؟ !
هل هذا إلا من أعظم الظلم والجحود لنعم الله ؟ " ولهذا قال : { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ، فلو أقروا بالنعمة ونسبوها إلى من أولاها ، لما أشركوا به أحدا .
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن خلق الإِنسان ، وتقلبه فى أطوار عمره ، إلى الحديث عن التفاوت بين الناس في أرزاقهم ، فقال - تعالى - : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق . . . } فجعل منكم الغني والفقير ، والمالك والمملوك ، والقوي والضعيف ، وغير ذلك من ألوان التفاوت بين الناس ، لحكمة هو يعلمها - سبحانه - .
ثم بين - سبحانه - موقف المفضلين في الرزق من غيرهم فقال : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ . . } ، أي : فليس الذين فضلهم الله - تعالى - في الرزق على غيرهم { برادي } ، أي : بمانحي وباذلي { رزقهم } ، الذي رزقهم الله إياه على مماليكهم ، أو خدمهم الذين هم إخوة لهم في الإنسانية . { فهم } ، أي : الأغنياء الذين فضلوا في الرزق ومماليكهم وخدمهم ، { فيه } ، أي : في هذا الرزق { سواء } ، من حيث إني أنا الرازق للجميع .
فالجملة الكريمة يجوز أن تكون دعوة من الله - تعالى - للذين فضلوا على غيرهم في الرزق ، بأن ينفقوا على مماليكهم وخدمهم ؛ لأن ما ينفقونه عليهم هو رزق أجراه الله للفقراء على أيدي الأغنياء . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية : أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ، وإخوانكم ، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، " كما يحكى عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما هم إخوانكم ، فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون " . فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه ، وإزاره إزاره ، من غير تفاوت " .
ويجوز أن تكون الآية الكريمة توبيخا للذين يشركون مع الله - تعالى - آلهة أخرى في العبادة . فيكون المعنى : لقد فضل الله - تعالى - بعضكم على بعض في الرزق - أيها الناس - ، ومع ذلك فالمشاهد الغالب بينهم ، أن الأغنياء لا يردون أموالهم على خدمهم وعبيدهم ، بحيث يتساوون معهم في الرزق ، وإذا ردوا عليهم شيئا ، فإنما هو شيء قليل يسير ، يدل على بخلهم وحرصهم . . مع أني أنا الرازق للجميع .
وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله عند تفسيره للآية : " يبين - تعالى - للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من شركاء ، وهم يعترفون بأنهم عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال - تعالى - منكرا عليهم : أنتم لاترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى - بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال - تعالى - في آية أخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ . . } . وقال العوفي : عن ابن عباس في هذه الآية يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون معي عبيدي في سلطاني . . " .
وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى سياق آيات السورة الكريمة ؛ لأن السورة الكريمة مكية ، ومن أهدافها الأساسية دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل - ، ونبذ الإِشراك والمشركين ، وإقامة الأدلة المتنوعة على بطلان كل عبادة لغير الله - تعالى - .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } . والاستفهام هنا ؛ للتوبيخ والتقريع ، والفاء معطوفة على مقدر ، أي : أيشركون به - سبحانه - فيجحدون نعمه ، وينكرونها ، ويغمطونها حقها ، مع أنه - تعالى - هو الذي وهبهم هذه النعم ، وهو الذي منحهم ما منحهم من أرزاق ؟ ! ! .
واللمسة الثانية في الرزق . والتفاوت فيه ملحوظ . والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل الله لبعضهم على بعض في الرزق . ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة الله . فليس شيء من ذلك جزافا ولا عبثا . وقد يكون الإنسان مفكرا عالما عاقلا ، ولكن موهبته في الحصول على الرزق وتنميته محدودة ، لأن له مواهب في ميادين أخرى . وقد يبدو غبيا جاهلا ساذجا ، ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته .
والناس مواهب وطاقات . فيحسب من لا يدقق أن لا علاقة للرزق بالمقدرة ، وإنما هي مقدرة خاصة في جانب من جوانب الحياة . وقد تكون بسطة الرزق ابتلاء من الله ، كما يكون التضييق فيه لحكمة يريدها ويحققها بالابتلاء . . وعلى أية حال فإن التفاوت في الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لاختلاف في المواهب - وذلك حين تمتنع الأسباب المصطنعة الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلة - والنص يشير إلى هذه الظاهرة التي كانت واقعة في المجتمع العربي ؛ ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي يزاولونها ، والتي سبقت الإشارة إليها . ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق الله الذي أعطاهم ويجعلونه لآلهتهم المدعاة . فهو يقول عنهم هنا : إنهم لا يردون جزءا من أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق . [ وكان هذا أمرا واقعا قبل الإسلام ] ليصبحوا سواء في الرزق . فما بالهم يردون جزءا من مال الله الذي رزقهم إياه على آلهتهم المدعاة ؟ ( أفبنعمة الله يجحدون ؟ ) فيجازون النعمة بالشرك ، بدل الشكر للمنعم المتفضل الوهاب ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ فِي الْرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ عَلَىَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا ، فما الذين فضّلهم الله على غيرهم بما رزقهم { بِرَادّي رِزْقهِمْ على ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } ، يقول : بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال والأزواج . فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ، يقول : حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم ، يقول تعالى ذكره : فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله . وقيل : إنما عَنَى بذلك الذين قالوا : إن المسيح ابن الله من النصارى . وقوله : أفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ يقول تعالى ذكره : أفبنعمة الله التي أنعمها على هؤلاء المشركين من الرزق الذي رزقهم في الدنيا ، يجحدون بإشراكهم غير الله من خلقه في سلطانه ومُلكه ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } ، يقول : لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ فذلك قوله : { أفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : هذه الآية في شأن عيسى ابن مريم ، يعني بذلك نفسه ، إنما عيسى عبد ، فيقول الله : والله ما تشركون عبيدكم في الذي لكم ، فتكونوا أنتم وهم سواء ، فكيف ترضَون لي بما لا ترضون لأنفسكم ؟
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { بِرَادّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } ، قال : مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاللّهُ فَضّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرّزْقِ فَمَا الّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أفَبِنَعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } وهذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك مملوكه ، في زوجته ، وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحقّ أن ينزّه منه من نفسك ، ولا تعدل بالله أحدا من عباده وخلقه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فَمَا الّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّي رِزْقِهِمْ على ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ } قال : هذا الذي فضل في المال والولد ، لا يشرك عبده في ماله وزوجته . يقول : قد رضيت بذلك لله ولم ترض به لنفسك ، فجعلت لله شريكا في ملكه وخلقه .
{ والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق } ، فمنكم غني ومنكم فقير ، ومنكم موال يتولون رزقهم ورزق غيرهم ، ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك . { فما الذين فُضّلوا برادّي رزقهم } ، بمعطي رزقهم . { على ما ملكت أيمانهم } ، على مماليكهم ، فإنما يردون عليهم رزقهم الذي جعله الله في أيديهم . { فهو فيه سواء } ، فالموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم ، فالجملة لازمة للجملة المنفية أو مقررة لها ، ويجوز أن تكون واقعة موقع الجواب ، كأنه قيل : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق ، على أنه رد وإنكار على المشركين ، فإنهم يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية ، ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم . فيما أنعم الله عليهم فيساورهم فيه . { أفبنعمة الله يجحدون } ، حيث يتخذون له شركاء ، فإنه يقتضي : أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ، ويجحدوا أنه من عند الله ، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعدما أنعم الله عليهم بإيضاحهم ، والباء لتضمن الجحود معنى الكفر . وقرأ أبو بكر : " تجحدون " ، بالتاء لقوله : { خلقكم } ، و{ فضل بعضكم } .
هذا من الاستدلال على أن التّصرف القاهر لله تعالى . وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والإماتة وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرّزق .
ولما كان الرّزق حاصلاً لكل موجود بُني الاستدلال على التّفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } [ سورة النحل : 70 ] .
ووجه الاستدلال به على التصرّف القاهر أن الرزق حاصل لِجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم ؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلاً وفهماً مقتّراً عليه في الرزق ، وبضدّه ترى أجهل الناس وأقلّهم تدبيراً موسّعاً عليه في الرزق ، وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهراً عليه ، فالمقتّر عليه لا يدري أسباب التّقتير ، والموسّع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه ، ذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغّلة في الخفاء حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها . ومما ينسب إلى الشافعي :
ومن الدّليل على القضاء وكونه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر ، والحكيم لا يستفزّه ذلك بعكس قول ابن الراوندي :
كـم عاقل عاقل أعيَت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة *** وصيّر العالم النّحرير زنديقا
وهذا الحكم دلّ على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالنّحريرية .
وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع .
فجملة والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } مقدمة للدّليل ومنّة من المنن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق .
وليست الجملة مناط الاستدلال ، إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى : { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } الآية .
والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } [ سورة النحل : 70 ] . والمعنى : الله لا غيره رزقكم جميعاً وفضّل بعضكم على بعض في الرزق ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له .
وقد تمّ الاستدلال عند قوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } بطريقة الإيجاز ، كما قيل : لمحة دالة .
وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قولُه تعالى : { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء } . وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سَوّوا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فساداً في تفكيرهم . وذلك مثل ما كانوا يقولون في تلبية الحجّ ( لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ) . فمثل بطلان عقيدة الإشراك بالله بعضَ مخلوقاته بحالة أهل النّعمة المرزوقين ، لأنهم لا يرضون أن يُشركوا عبيدهم معهم في فضل رزقهم فكيف يسوّون بالله عبيده في صفته العظمى وهي الإلهيّة .
ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبّهتين والمشبّه بهما حالتا مولى وعبد ، كما قال تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } [ سورة الروم : 28 ] .
والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم واستحالة صدقها بحسب العرف ، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما يرضونه لأنفسهم ، كقوله تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } إلى قوله : { ولله المثل الأعلى } [ سورة النحل : 57 ، 60 ] .
وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام .
وقوله تعالى : { فما الذين فضلوا } نفيٌ . و ( ما ) نافية ، والباء في { برادي رزقهم } الباءُ التي تزاد في خبر النفي ب ( ما ) و ( ليس ) .
والرادّ : المعطي . كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم « والخُمُس مردود عليكم » أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوّونهم بهم ، أي فما ذلك بواقع .
وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي ، لأن اليمين سبب وَهمِي للمِلك ، لأن سبب الملك إما أسر وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى ، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفاً ، فهي سبب وهَمي ناشىء عن العادة .
وفرعت جملة { فهم فيه سواء } على جملة { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } ، أي لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه ، أي لا يقع ذلك فيقع هذا . فموقع هذه الجملة الإسميّة شبيه بموقع الفعل بعد فاء السببية في جواب النفي .
وأما جملة { أفبنعمة الله يجحدون } فصالحة لأن تكون مفرّعة على جملة { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } باعتبار ما تضمّنته من الامتنان ، أي تفضّل الله عليكم جميعاً بالرزق أفبنعمة الله تجحدون ، استفهاماً مستعملاً في التوبيخ ، حيث أشركوا مع الذي أنعم عليهم آلهة لا حظّ لها في الإنعام عليهم . ( وذلك جحود النعمة كقوله تعالى : { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له } [ سورة العنكبوت : 17 ] . وتكون جملة { فما الذين فضلوا } إلى قوله تعالى : { فهم فيه سواء } معترضة بين الجملتين .
وعلى هذا الوجه يكون في { يجحدون } على قراءة الجمهور بالتحتية التفات من الخطاب إلى الغيبة . ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض كقول :
أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر *** ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثّته على الخير مـرّة *** عصاها وإن همّت بشر أطاعها
ثم صرّح بما وقع التعريض به بقوله : { أفبنعمة الله يجحدون } .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب { تجحدون } بالمثناة الفوقية على مقتضى الظاهر ويكون الاستفهام مستعملاً في التحذير .
وتصلح جملة { أفبنعمة الله يجحدون } أن تكون مفرّعة على جملة { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } ، فيكون التوبيخ متوجّهاً إلى فريق من المشركين وهم الذين فضلوا بالرزق وهم أولو السّعة منهم وسادتهم وقد كانوا أشدّ كفراً بالدين وتألّباً على المسلمين ، أي أيجحد الذين فضلوا بنعمة الله إذْ أفاض عليهم النّعمة فيكونوا أشد إشراكاً به ، كقوله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهّلهم قليلا } [ سورة المزمل : 11 ] .
وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى : { يجحدون } في قراءة الجمهور بالتحتية جارياً على مقتضى الظاهر . وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالمثناة الفوقية التفاتاً من الغيبة إلى خطابهم إقبالاً عليهم بالخطاب لإدخال الروع في نفوسهم .
وقد عُدّي فعل { يجحدون } بالباء لتضمّنه معنى يكفرون ، وتكون الباء لتوكيد تعلّق الفعل بالمفعول مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ سورة المائدة : 6 ] . وتقديم بنعمة الله على متعلّقه وهو { يجحدون } للرعاية على الفاصلة .