السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (71)

ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار ، المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار ، للخوف كل لحظة من مصيبة الموت ، أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال : { والله } ، أي : الذي له الأمر كله ، { فضل بعضكم } ، أيها الناس ، { على بعض في الرزق } ، فمنكم غني ، ومنكم فقير ، ومنكم مالك ، ومنكم مملوك ، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم ، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم ، فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً ، يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك ، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً ، تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله ، أو دار في خياله ، فإنه يحصل له بسهولة . ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله ، لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال ، فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً ، وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً ، علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } [ الزخرف ، 32 ] ، فاتقوا الله ، وأجملوا في طلب الرزق ، وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار ، وأنشد سفيان بن عيينة يقول :

كم من قويّ قويّ في تقلبه *** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف

ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط *** كأنه من خليج البحر يغترف

وحكي أنّ سليمان المهلبي أرسل إلى الخليل بن أحمد بمئة ألف درهم فردّها الخليل وكتب إليه هذه الأبيات :

أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست ذا مال

شحي بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت جوعاً ولا يبقى على حال

فالعجز عن قدرها العجز ينقصه *** ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر في النفس لا في المال تعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

وقال الشافعي رحمه الله تعالى :

ومن الدليل على القضاء وكونه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

تنبيه : هذا التفاوت ليس مختصاً بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة ، والحسن والقبح ، والعقل والحمق ، والصحة والسقم ، والاسم الحسن والاسم القبيح ، وهذا بحر لا ساحل له . قال الرازي : وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار ، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه ، فكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه ، وما كان يمكنه ركوب واحد منها ، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه الكثيرة العطرة عنده ، وما كان يمكنه أن يتناول شيئاً منها ، وكان من الفقراء من هو صحيح المزاج وقوي البنية كامل القوّة ، وما كان يجد ملء بطنه طعاماً ، فذلك الملك وإن كان يفضل هذا الفقير في المال إلا أنّ هذا الفقير كان يفضل ذلك الملك في الصحة والقوّة ، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه فيه ، فنسأل الله تعالى أن يغنينا من فضله ، وأن يرضينا بما قسم لنا إنه كريم جواد .

ثم ضرب الله تعالى مثلاً للذين جعلوا لله شركاء بقوله تعالى : { فما الذين فضلوا } ، أي : في الرزق ، وهم الموالي ، { برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } ، أي : بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها ، بينهم وبين مماليكهم ، { فهم } ، أي : المماليك والموالي ، { فيه سواء } ، أي : شركاء ، يقول الله تعالى : هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء ، فكيف يجعلون بعض عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني ، وقيل : معنى الآية : أنّ الموالي والمماليك ، الله رازقهم جميعاً ، فهم في رزقه سواء ، فلا تحسبن الموالي يردّون أرزاقهم على مماليكهم من عند أنفسهم ، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك . والمقصود منه : بيان أنّ الرازق هو الله تعالى لجميع خلقه ، وأنّ الموالي والمماليك في ذلك الرزق سواء ، وأنّ المالك لا يرزق المملوك ، وإنما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم ، فالرازق للمالك والمملوك هو الله تعالى .

ولما قرّر سبحانه وتعالى هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل ، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق ، فعند هذا قال : { أفبنعمة الله } ، في تقرير هذه البيانات ، وإيضاح هذه البينات ، { يجحدون } ، أي : يكفرون ، وفي ذلك إنكار على المشركين ، حيث جحدوا نعمته ، وعبدوا غيره ، وجعلوا له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم ، فيسوّون بينهم وبينه في ذلك . وقرأ شعبة بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء على الغيبة .