معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } . للحي لكي تعتبروا وتستدلوا . وقيل لكي تنتفعوا .

قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } . قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف : أي ارتفع إلى السماء . وقال ابن كيسان و الفراء وجماعة من النحويين : أي أقبل على خلق السماء . وقيل : قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء .

قوله تعالى : { فسواهن سبع سماوات } . وخلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع .

قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام ، زاد الكسائي و قالون : ثم هو و قالون أن يمل هو .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي : خلق لكم ، برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .

وفي هذه الآية العظيمة{[83]}  دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك الخبائث ، فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ، ومعرفة المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك ، ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث ، تنزيها لنا .

وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش }{[84]} { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض ، قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، { وهو بكل شيء عليم } ف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى .

وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه ، وحكمته ، وقدرته .


[83]:- في ب: الكريمة.
[84]:- في ب: أورد آية أخرى هي: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ".
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } . أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .

ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } .

استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .

والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .

وجملة { ثُمَّ استوى } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .

وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

1

ثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى :

( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ؛ وهو بكل شيء عليم ) . .

ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء ، يتحدثون عن القبلية والبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن " قبل وبعد " اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . . ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية ، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى ، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية ، وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة ، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام ! !

فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني ، وعلى دوره العظيم في الأرض ، وعلى قيمته في ميزان الله ، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي ؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي . .

( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) . .

إن كلمة( لكم )هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض ، مالكا لما فيها ، فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون ، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه ، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان ، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه ؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان ، مهما يحقق من مزايا مادية ، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا ، واستعلاء الإنسان أولا ، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة .

والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا ، ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على ما في الأرض جميعا ، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم .

( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) . .

ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين . كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها . اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص ، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون ، الذي سخر لهم الأرض بما فيها ، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة .

( وهو بكل شيء عليم ) . .

بما أنه الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء . وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد ، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد ، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل .

وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز على الإيمان ، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا . وقوله : «هو » مكنى من اسم الله جل ذكره ، عائد على اسمه في قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ . ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه : إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و«ما » بمعنى «الذي » . فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك ، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم . و«كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : فأين تذهبون . وحل قوله : وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ محلّ الحال ، وفيه إضمار «قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن «فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلوما أنها مقتضية «قد » ، كما قال جل ثناؤه : أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .

وبنحو الذي قلنا في قوله : هوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا نعم والله سخر لكم ما في الأرض .

القول في تأويل قوله تعالى : ثُم اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ .

قال أبو جعفر : اختلف في تأويل قوله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني واستوى إليّ يشاتمني ، بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني . واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :

أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ

فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن . وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : «واستوين من الضجوع » عندي : استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه .

وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام ، إنما يريد تحوّل فعله .

وقال بعضهم : قوله ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ يعني به : استوت ، كما قال الشاعر :

أقُولُ لَهُ لَمّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ على أيّ دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ

وقال بعضهم : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ : عمد إليها . وقال : بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه .

وقال بعضهم : الاستواء : هو العلوّ ، والعلوّ : هو الارتفاع .

وممن قال ذلك الربيع بن أنس .

حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ يقول : ارتفع إلى السماء .

ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء ، فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها : هو خالقها ومنشئها .

وقال بعضهم : بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء .

قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوّته ، فيقال إذا صار كذلك : قد استوى الرجل ، ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره : إذا استقام له بعد أود . ومنه قول الطرماح بن حكيم :

طالَ على رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْ *** وعَفا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ

يعني : استقام به .

ومنها الإقبال على الشيء بالفعل ، كما يقال : استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه . ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم : استوى فلان على المملكة ، بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها العلوّ والارتفاع ، كقول القائل : استوى فلان على سريره ، يعني به علوّه عليه .

وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات .

والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها ، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر ، ثم لم ينج مما هرب منه . فيقال له : زعمت أن تأويل قوله : اسْتَوَى أقْبَلَ ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله ، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا ، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى .

قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟ قيل : بعده ، وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات ، كما قال جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا ، وقبل أن يسوّيها سبع سموات .

وقال بعضهم : إنما قال استوى إلى السماء ولا سماء ، كقول الرجل لاَخر : «اعمل هذا الثوب » وإنما معه غزلٌ . وأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعني هيأهنّ وخلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ ، والتسوية في كلام العرب : التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوّى فلان لفلان هذا الأمر : إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له . فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهن على إرادته ، وتفتيقهن بعد ارتاقهن كما :

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول : سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم .

وقال جل ذكره : فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع . وقد قال قبل : ثم استوى إلى السماء فأخرجها على تقدير الواحد . وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع . لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر ، ونخلة ونخل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة ، فقيل : هذه سماء ، وذُكّرتْ أخرى فقيل : السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدة غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك . وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة ، غير أنها تدلّ على السموات ، فقيل : فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التي ذكرت ، وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تذكر معها . قال : وإنما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة ، فيقال : السماء منفطر به كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر :

فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها *** ولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا

وكما قال أعشى بني ثعلبة :

فإمّا تَرَيْ لِمّتِي بُدّلَت *** ْفإنّ الحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا

وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء ، وأرضا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدة إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعا ، كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ، وبرمة أعشار للمتكسرة ، وبرمة أكسار وأجبار ، وأخلاق : أي أن نواحيه أخلاق .

فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت : إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات ، ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جماع ؟ قيل : إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات ، فلذلك قال جلّ ذكره : فسوّاهنّ سبعا : كما :

حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أوّل ما خلق الله تبارك وتعالى : النور والظلمة ، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلم من دخان الماء حتى استقللن ولم يحبكهن ، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ، ثم دحى الأرض ، وأرساها بالجبال ، وقدّر فيها الأقوات ، وبثّ فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل خلقهنّ في يومين . ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته ، ثم قال للسموات والأرض : ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها ، قَالتَا : أتَيْنا طائِعِينَ .

فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء بعد خلقه الأرض وما فيها وهنّ سبع من دخان ، فسوّاهنّ كما وصف . وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها بتسويتها من غيره ، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التي قال الله فيها : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ بمعنى الجمع على ما وصفنا ، وأنه إنما قال جل ثناؤه : فسوّاهنّ إذ كانت السماء بمعنى الجمع على ما بينا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله : فسَوّاهُنّ إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الأرض ، ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك ؟ قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونزيد ذلك توكيدا بما انضمّ إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .

فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماءً ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : ن والقَلَم والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض . فتحرّك الحوت فاضطرب ، فتزلزت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله : وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ أَلارْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيها يقول : أنبت شجرها وَقَدّرَ فِيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها في أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِينَ يقول : قل لمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوْحَى في كُل سماءٍ أمْرَها قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البَرَدِ وما لا يعلم . ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش ، فذلك حين يقول : خلق السموات والأرض في ستة أيام يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .

وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : هُوَ الّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام .

وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغا في دنياكم ، ومتاعا إلى موافاة آجالكم ، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم . ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان ، فسوّاهن وحبكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه .

القول في تأويل قوله تعالى : وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ .

يعني بقوله جلّ جلاله : وهو نفسه ، وبقوله : بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ : أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسّوى السموات السبع بما فيهن ، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن ، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب ، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ وهم على التكذيب به منطوون . وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون ، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق ، وهم به عالمون بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم ، وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم . وقوله : عَلِيمٌ بمعنى عالم . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمل في علمه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمل في علمه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم . ومعنى { لكم } لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد . وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو . وجميعا : حال من الموصول الثاني .

{ ثم استوى إلى السماء } قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء . وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك ، قال :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و{ ثم } لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدرا لنصب الأرض فعلا آخر دل عليه { أأنتم أشد خلقا } مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر .

{ فسواهن } عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور . و{ هن } ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع . أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلا .

{ سبع سماوات } بدل أو تفسير . فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف .

{ وهو بكل شيء عليم } فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليما ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : { وهو بكل خلق عليم } .

وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم } فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير . وأما الثانية والثالثة : فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراع فيه مصالحهم وسد حاجاتهم . وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته . وقد سكّن نافع وأبو عمرو والكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بعضد .