قوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } . مبينات مفصلات ، سميت محكمات من الإحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها .
قوله تعالى : { هن أم الكتاب } . أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ، وإنما قال هن أم الكتاب ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد ، وقيل معناه : كل آية منهن أم الكتاب كما قال ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) أي كل واحد منهما آية .
قوله تعالى : { وأخر } جمع أخرى ، ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل عمرو وزفر .
قوله تعالى : { متشابهات } فإن قيل : كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع أخر فقال( الر كتاب أحكمت آياته ) وجعل كله متشابهاً فقال : ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ) . قيل : حيث جعل الكل محكماً ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابهاً ) ؟ قيل : حيث جعل الكل محكما أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضاً في الحق والصدق وفي الحسن ، وجعل هاهنا بعضه محكماً وبعضه متشابهاً ، واختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ونظيرها في بني إسرائيل ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) الآيات . وعنه أنه قال : المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور ، وقال مجاهد وعكرمة : المحكم ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضاً في الحق ، ويصدق بعضه بعضاً كقوله تعالى : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) ( ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون ) وقال قتادة والضحاك والسدي : المحكم : الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه ، المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات ، منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به . وقيل المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه ، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ، لا سبيل لأحد إلى علمه نحو : الخبر عن أشراط الساعة ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكم مالا يحتمل من التأويل غير وجه واحد ، والمتشابه ما يحتمل أوجها . وقيل : المحكم ما يعرف معناه وتكون حجته واضحة ودلائله لائحة لا يشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل . وقال بعضهم : المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى ، والمتشابه مالا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية بأن المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطاً من اليهود منهم حيي بن اخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له حيي : بلغنا أنه أنزل عليك ( الم ) ننشدك الله أأنزلت عليك ؟ قال : نعم ، قال : فإن كان ذلك حقاً فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة ، فهل أنزل غيرها ؟ قال : نعم ( المص ) قال : فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة ، قال : فهل غيرها ؟ قال : نعم ( الر ) . قال : هذه أكثر هي مائتان وإحدى وثلاثون سنة ، ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ، ونحن ممن لا يؤمن بهذا ، فأنزل الله تعالى ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) .
قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق وقيل شك .
قوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } . واختلفوا في المعني بهذه الآية قال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام وقالوا له ، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال :بلى ، قالوا : حسبنا ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وقال الكلبي : هم اليهود ، طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجه بحساب الجمل ، وقال ابن جريج ، هم المنافقون ، وقال الحسن : هم الخوارج . وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية { فأما الذين في قلوبهم زيغ } قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم . وقيل : هم جميع المبتدعة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا عبد الله بن مسلمة ، أنا يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) إلى قوله ( أولو الألباب ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .
قوله تعالى { ابتغاء الفتنة } طلب الشرك ، قاله الربيع والسدي . وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم .
قوله تعالى : { وابتغاء تأويله } تفسيره وعلمه ، دليله قوله تعالى( سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) وقيل : ابتغاء عاقبته ، وطلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل دليله قوله تعالى ( ذلك خير وأحسن تأويلا ) أي عاقبة .
قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } . اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله ( والراسخون ) واو العطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم .
قوله تعالى : { يقولون آمنا به } وهذا قول مجاهد ، والربيع ، وعلى هذا يكون قوله : يقولون حالا معناه والراسخون في العلم مع علمهم قائلين : آمنا به هذا كقوله تعالى ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى ) ثم قال ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ) إلى أن قال ( والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ) ثم قال ( والذين جاؤوا من بعدهم ) وهذا عطف على ما سبق ، ثم قال ( يقولون ربنا اغفر لنا ) يعني هم مع استحقاقهم للفيء يقولون : ربنا اغفر لنا ، أي قائلين على الحال . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية أنا من الراسخين في العلم ، وقال مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله . وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله { والراسخون } واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ، وراوية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين ، واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، ويجوز أن يكون في القرآن تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه ، كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها ، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به ، وفي المحكم بالإيمان به والعمل ، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا ، وفي حرف أبي ، ويقول الراسخون في العم آمنا به . وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وهذا القول قيس في العربية وأشبه بظاهر الآية قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته ، يقال رسخ الإيمان في قلب فلان ، يرسخ رسخاً ورسوخاً ، وقيل الراسخون في العلم مؤمنو أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى ( لكن الراسخون في العلم منهم ) يعني المدارسين علم التوراة والإنجيل ، وسئل مالك ابن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم ، المتبع لما علم ، وقيل : الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي : بقولهم ( آمنا به ) سماهم الله تعالى راسخين في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم آمنا به أي بالمتشابه .
قوله تعالى{ كل من عند ربنا } . المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى ، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي : واضحات الدلالة ، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي : أصله الذي يرجع إليه كل متشابه ، وهي معظمه وأكثره ، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي : يلتبس معناها على كثير من الأذهان : لكون دلالتها مجملة ، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها ، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد ، وهي الأكثر التي يرجع إليها ، ومنه آيات تشكل على بعض الناس ، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي ، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة ، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي : ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم ، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي : يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه ، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم ، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه ، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة ، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه ، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان ، جمهورهم يقفون عندها ، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل ، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته ، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها ، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك ، فهذه لا يعلمها إلا الله ، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها ، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته ، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [ استوى ] }{[152]} فقال السائل : كيف استوى ؟ فقال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك ، تلك الصفة معلومة ، وكيفيتها مجهولة ، والإيمان بها واجب ، والسؤال عنها بدعة ، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها ، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا ، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني ، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه ، لأنه لا يعلمها إلا الله ، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون ، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح ، كان الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا ، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض{[153]} وفيه تنبيه على الأصل الكبير ، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله ، وأشكل عليهم مجمل المتشابه ، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم ، وإن لم يفهموا وجه ذلك . ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما يذكر } أي : يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي : أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم ، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه ، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته ، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة .
وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة الواضحة على أنه هو المستحق للعبادة ، عقب ذلك ببيان أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، وبيان موقف الناس منهما فقال - تعالى - : { هُوَ الذي أَنزَلَ . . . } .
قوله - تعالى - : { مُّحْكَمَاتٌ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شئ واحد هو المنع يقال : أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد ويقال : أحكمه عن الشئ أى أرجعه عنه ومنعه منه . ويقال حكم نفسه وحكم الناس ، أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق . ويقال أحكم الفرس أى جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب .
وقوله : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أى أصله الذى فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس فى دنياهم وآخرتهم . وأم كل شئ : أصله وعماده .
قال ابن جرير : والعرب تسمى الأمر الجامع لمعظم الشئ أماً له . فيسمون راية القوم التى تجمعهم فى العساكر أمهم . ويسمون المدبر لمعظم أمر البلدة والقرية أمها " .
وقوله { مُتَشَابِهَاتٌ } من التشابه بمعنى أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر ومماثلا ومشاكلا له مشاكلة تؤدى إلى الالتباء غالباً . قال : أمور مشتبة ومشبهة - كمعظمة - : أى مشكلة . ويقال : شبه عليه الأمر تشبيها : لبس عليه .
ولقد جاء فى القرآن ما يدل على أنه كله محكم كما فى قوله - تعالى - { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه كما فى قوله - تعالى - { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } وجاء فيه ما يدل على أن بعضه متشابه كما فى الآية التى نحن بصدد تفسيرها . ولا تعارض بين هذه الإِطلاقات الثلاثة ، لأن معنى إحكامه كله : أنه متقن متين لا يتطرق إليه خلل أو اضطراب . ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا فى بلاغته وفصاحته وإعجازه وهدايته ، ومعنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فسنبينه بعد سرد بعض الأقوال التى قالها العلماء فى تحديد معنى كل منهما .
فمنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح .
ومنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح .
ومنهم من يرى أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان . والمتشابه هو الذى لا يستقل بنفسه ، بل يحتاج إلى بيان ، فتارة يبين بكذا ، وتارة يبين بكذا ، لحصول الاختلاف فى تأويله .
ومنهم من يرى أن المحكم هو الذى لا يحتمل فى تأويله إلا وجها واحداً والمتشابه هو الذى يحتمل أوجها . ومنهم من يرى أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر . أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل .
هذه بعض الأقوال فى تحديد معنى المحكم والمتشابه . وقد اختار كثير من المحققين هذا القول الأخير ، ومعنى الآية الكريمة - بعد هذا التهميد الموجز :
الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو الحى القيوم ، والذى أنزل الكتب السماوية لهداية الناس ، والذى صورهم فى الأرحام كيف يشاء ، وهو الذى أنزل عليك - يا محمد - هذا الكتاب الكريم المعجز العظيم الشأن ، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل هذا الكتاب { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } أى واضحات الدلالة ، محكمات التراكيب ، جليات المعانى ، متقنات النظم والتعبير حاويات لكل ما يسعد الناس فى معاشهم ومعادهم ، بينات لا التباس فيها ولا اشتابه .
وقوله { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أى هذه الآيات المحكمات الواضحات الدلالة المانعات من الوقوع فى الالتباس لانكشاف معانيها لكل ذى عقل سليم ، هن أصل الكتاب الذى يعول عليه فى معرفة الأحكام ، ويرجع إليه فى التمييز بين الحلال والحرام ، ويرد إليه ما تشابه من آياته ، وما استشكل من معانيها .
والجار والمجرور { مِنْهُ } خبر مقدم ، و { آيَاتٌ } مبتدأ مؤخر ، و { مُّحْكَمَاتٌ } صفة لآيات . وقوله { هُنَّ أُمُّ الكتاب } صفة ثانية للآيات .
قال الجمل : وأخبر بلفظ الواحد وهو { أُمُّ } عن الجمع وهو { هُنَّ } لأن الآيات كلها فى تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد . أو أن كل واحدة منهن أم الكتاب كما قال - تعالى - : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أى كل واحد منهما . أو لأنه مفرد واقع موقع الجمع " .
وقوله { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أى ومنه آيات أخر متشابهات وذلك كالآيات التى تتحدث عن صفات الله - تعالى - مثل : الاستواء ، واليد والغضب ، ونحو ذلك من الآيات التى تحدثت عن صفاته - سبحانه - وكالآيات التى تتحدث عن وقت الساعة ، وعن الروح وعن حقيقة الجن والملائكة وكالحروف المقطعة فى أوائل السور .
قال الشيخ الزرقانى ما ملخصه : ومنشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه . أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ من جهة غرابته كلفظ الأب فى قوله تعالى : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أو من جهة اشتراكه بين معان عدة كما فى قوله - تعالى - { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } أى فأقبل إبراهيم على الأصنام يضربها بيمينه ، أو بقوة ، أو بسبب اليمين التى حلفها . ومن هذا النوع فواتح السور المبدوءة بحروف التهجى لأن التشابه والخفاء فى المراد منها جاء من ناحية ألفاظها .
ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى ، ومثاله كل ما جاء فى القرآن وصفا لله - تعالى - أو لأهوال القيامة ، أو لنعيم الجنة . . فإن العقل البشرى لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق ، ولا بأهوال يوم القيامة ، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار .
ثم قال - رحمه الله - ويمكننا أن ننوع المتشابهات ثلاثة أنواع :
النوع الأول : مالا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته ، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه مما استأثر الله بعلمه .
النوع الثانى : ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس ، كالمتشابهات التى نشأ التشابه فيها من جهة الإِجمال والبسط والترتيب . والأمثلة على ذلك كثيرة ، فمثال التشابه بسبب الإِجمال قوله - تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه . والأصل : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } .
النوع الثالث : ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعانى العالية التى تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله " .
ثم بين - سبحانه - موقف الذي فى قلوبهم مرض وانحراف عن الحق من متشابه القرآن فقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } فالجملة الكريمة تفصيل لإِجمال اقتضاه الكلام السابق .
والزيغ - كما يقول القرطبى - الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ، ويقال : زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد ، ومنه قوله - تعالى - : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة ، وإن كانت الإِشارة بها فى ذلك الوقت إلى نصارى نجران .
والابتغاء : الاجتهاد فى الطلب . يقال : بغيت الشئ وابتغيته ، إذا طلبته بجد ونشاط . والفتنة : من الفتن : وأصل الفتن إدخال الذهب للنار لتظهر جودته من رداءته . والمراد بها هنا الإِضلال وإثارة الشكوك حول الحق .
والتأويل : يطلق بمعنى التفسير والتوضيح والبيان . ويطلق بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول إليه أمره ، مأخوذ من الأول وهو الرجوع إلى الأصل .
يقال : آل الأمر إلى كذا يؤول أولاً أى رجع . وأولته إليه : رجعته .
المعنى : لقد اقتضت حكمتنا - يا محمد - أن ننزل عليك القرآن مشتملا على آيات محكمات هن أم الكتاب ، وعلى أخر متشابهات . فأما الفاسقون الذين فى قلوبهم انحراف عن طلب الحق ، وميل عن المنهج القويم ، وانصراف عن القصد السوى فيتبعون ما تشابه منه ، أى : يتعلقون بذلك وحده . ويعكفون على الخوض فيه . ولا تتجه عقولهم إلى المحكم ليردوا المتشابه إليه ، وإنما يلازمون الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه ، لأنه يوافق اعوجاج نفوسهم وسوء نياتهم . وتحكم أهوائهم وشهواتهم .
وقد بين - سبحانه - أن اتباع هؤلاء الزائغين للمتشابه إنما يقصدون من ورائه أمرين :
أولهما : { ابتغاء الفتنة } أى طلبا لفتنة المؤمنين فى دينهم . وتشكيكهم فى عقيدتهم ، وإثارة الريب فى قلوبهم بأوهام يلقونها حول المتشابه الذى جاء به القرآن ، بأن يقولوا - كما حكى القرآن عنهم -
{ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وبأن يقولوا : كيف يكون نعيم الجنة ، وما حقيقة الروح ولماذا يعذبنا الله على أعمالنا مع أنه هو الخالق لكل شئ ، إلى غير ذلك من الشبهات الزائفة التى يثيرها الذين فى قلوبهم زيغ طلبا لتشكيك المؤمنين فى دينهم .
وثانيهما : { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أى : ويتعلقون بالمتشابه ويتبعونه طلبا لتأويل آيات القرآن تأويلا باطلا ، وتفسيرها تفسيرا فاسداً بعيداً عن الحق زاعمين أن تفسيرهم هذا هو الحق بعينه ، لأنه يتفق مع أهوائهم وشهواتهم وميولهم الأثيمة .
وفى جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغة فى عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد .
وفى تعليل الاتباع - كما يقول الآلوسى - " بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقيقة . إيذان بأنهم ليسوا من أهل التأويل - فى عير ولا نفير ولا قبيل ولا دبير - وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه " .
وقد ذم النبى صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من القرآن طلبا للفتنة والتأويل الباطل ، وحذر منهم فى أحاديث كثيرة . ومن ذلك ما رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } . . إلخ الآيات قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " .
وقد استجاب الصحابة - رضى الله عنهم - لوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يتباعدون عن الذين فى قلوبهم زيغ . ويزجرونهم ويشفون عن أباطيلهم .
قال القرطبى : " حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضى : قال : أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم ، عن سليمان بن يسار أن صَبِيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء : فبلغ ذلك عمر - رضى الله عنه - فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . فقال عمر - وانا عبد الله عمر : ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين ! ! فقد والله ذهب ما كنت أجد فى رأسى " .
ثم بين - سبحانه - أن تأويل المتشابه مرده إلى الله - تعالى - وأن الراسخين فى العلم يعلمون منه ما يوفقهم الله لمعرفته فقال ، { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
وقوله - تعالى - { والراسخون فِي العلم } من الرسوخ وهو الثبات والتمكن وأصله فى الأجرام ، أن يرسخ الجبل والشجر فى الأرض ، واستعمل فى المعانى ومنه رسخ الإِيمان فى القلب . أى ثبت واستقر وتمكن .
والألباب ، جمع لب وهو - كما يقول الراغب - العقل الخالص من الشوائب وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإِنسان من معانيه ، كاللباب واللب من الشئ وقيل هو ما زكا من العقل ، فكل لب عقل وليس كل عقل لبا ، ولهذا علق الله - تعالى - الأحكام التى لا يدركها إلا العقول الزكية بأولى الألباب " .
قال الآلوسى : " وقوله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم } فى موضع الحال من ضمير يتبعون باعتبار العلة الأخيرة . أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله - تأويلا فاسداً - والحال أن التأويل المطابق للواقع - كما يشعر به التعبير بالعلم والإِضافة إلى الله - تعالى - مخصوص به - سبحانه - وبمن وفقه - عز شأنه - من عباده الراسخين فى العلم . أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا فى مزال الأقدام ، ومداحض الأفهام ، دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة ، هذا ما يقتضيه الظاهر فى تفسير الراسخين " .
وقوله . { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } جملة موضحة لحال الراسخين فى العلم ، ومبينة لما هم عليهم من قوة الإِيمان ، وصدق اليقين .
أى يقول الراسخون فى العلم عندما يقرءون ما تشابه من آيات القرآن آمنا به وصدقنا وأذعنا فنحن لا نشك فى أن كلا من الآيات المتشابهة والآيات المحكمة من عند الله وحده فهو الذى أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم بمقتضى حكمته ومشيئته .
وقوله { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } ، معطوف على جملة { يَقُولُونَ } وقد ختم به - سبحانه - هذه الآية على سبيل المدح لهؤلاء الراسخين فى العلم .
أى : وما يدرك هذه الحقائق الدينية ويعتبر بها ويتذكر ما اشتمل عليه القرآن من أحكام وآداب وهدايات وتشريعات إلا أصحاب العقول السليمة ، والألباب المستنيرة التى لا تتأثر بالأهواء والشهوات ، ولا تركن إلى البدع الزائفة والأفكار الفاسدة .
قال ابن كثير : " وقوله - تعالى - { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } اختلف القراء فى الوقف هنا فقيل الوقف على لفظ الجلالة ، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال : " التفسير على أربعة انحاء فتفسير لا يعذر أحد فى فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون فى العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله " . وعن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه " .
وحكى ابن جرير أن قراءة عبد الله بن مسعود ، إن تأويله إلا عند الله ، والراسخون فى العلم يقولون آمنا به . واختار هذا القول ابن جرير - وهو مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة .
ومنهم من يقف على قوله { والراسخون فِي العلم } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد . وقد روى عن ابن عباس أنه قال . أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله ، وروى عن مجاهد أنه قال والراسخون فى العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به .
وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : " اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل " .
والذى نراه أنه إذا فسر المتشابه بما استأثر الله - تعالى - بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح ، كان الوقف على لفظ الجلالة وكانت الواو فى قوله { والراسخون } للاستئناف ، والراسخون مبتدأ وجملة " يقولون " خبر عنه .
أى والراسخون فى العلم يقولون آمنا به ويفوضون علمه إليه - سبحانه - ولا يقتحمون أسواره ، كأهل الزيغ والضلال الذين أولوه تأويلا فاسدا . . وإذا فسر المتشابه بما لا يتبين معناه إلا بعد نظر دقيق بحيث يتناول المجمل ونحوه كان الوقف على لفظ العلم ، وكانت الواو فى قوله { والراسخون } للعطف .
أى : لا يعلم تأويل المتشابه تأويلا حقا سليما إلا الله والراسخون فى العلم أما أولئك الذين فى قلوبهم زيغ فهم أبعد ما يكونون عن ذلك .
ويجوز الوقف على هذا الرأى أيضاً على لفظ الجلالة ؛ لأنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه علما كاملا إلا الله . أولا يعلم كنهه وحقيقته أحد سواه .
وإذا فسر المتشابه بما قام الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد . مع عدم قيام الدليل على تعيينه ، كمتشابه الصفات أو ما يسمى بآيات الصفات مثل قوله - تعالى - { الرحمن عَلَى العرش استوى } جاز الوقف والعطف عند من يؤولون هذه الصفات تأويلا يليق بذاته - تعالى - وهم جمهور علماء الخلف ووجب الوقف على لفظ الجلالة عند من يفوض معاني هذه المتشابهات إلى الله - تعالى - مع تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة وهم جمهور علماء السلف وهذه المسألة من المسائل التي أفاض القول فيها الباحثون في علم الكلام .
هذا وقد ذكر العلماء حكما متعددة لاشتمال القرآن على المحكم والمتشابه ، منها : الابتلاء والاختبار ، لأن الراسخون في العلم سيؤمنون به وإن لم يعرفوا تأويله ، ويخضعون لسلطان الربوبية ، ويقرون بالعجز والقصور ، وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة . وأما الذين في قلوبهم زيغ فيؤولونه تأويلا باطلا لإضلال الناس وتشكيكهم في دينهم .
ومنها : رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء . فقد أخفى - سبحانه - على الناس معرفة وقت قيام الساعة لكيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها ، ولكيلا يفتك بهم الخوف فيما لو أدركوا بالتحديد قرب قيامها .
ومنها - كما يقول الفخر الرازي : " أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ، ومنها : أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة ، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد . ومنها أن اشتماله على المحكم والمتشابه يحمل الإنسان على تعلم علوم كثيرة كعلم اللغة والنحو وأصول الفقه وغير ذلك من أنواع العلوم ، ومنها : أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفى فوقع في العطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ، وبذلك يكون مخلوطا بما يدل على الحق الصريح . فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات " .
ومنها - كما يقول الجمل نقلا عن الخازن : " فإن قيل القرآن نزل لإرشاد الناس فهلا كان كله محكما ؟ فالجواب أنه نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم . وكلامهم على ضربين : الموجز الذي لا يخفى على سامع هذا هو الضرب الأول ، والثاني المجاز والكنايات والإرشادات والتلويحات وهذا هو المستحسن عندهم ، فأنزل القرآن على ضربين ليتحقق عجزهم فكأنه قال : عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكما لقالوا : هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا " .
قال بعض العلماء : والذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها ، أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها ، وأنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى دون أن يبينها ، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ولا شك من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية .
لذلك نقول جازمين : إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة ، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول ، لأنه لم يطلع على موضوعها ، فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها ، بل لاشتباه عند من لا يعلم ، واشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة " .
بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة ، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل ، ليصوغوا حولها الشبهات ؛ ويصور سمات المؤمنين حقا وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال :
( هو الذي أنزل عليك الكتاب . منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون في العلم يقولون : آمنا به . كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولوا الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه . إن الله لا يخلف الميعاد ) .
وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول [ ص ] ألست تقول عن المسيح : إنه كلمة الله وروحه ؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى - عليه السلام - وأنه ليس من البشر ، إنما هو روح الله - على ما يفهمون هم من هذا التعبير - بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة ، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور . . فنزلت فيهم هذه الآية ، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة ، وترك النصوص التجريدية القاطعة .
على أن نص الآية اعم من هذه المناسبة ؛ فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه [ ص ] متضمنا حقائق التصور الإيماني ، ومنهاج الحياة الإسلامية ؛ ومتضمنا كذلك أمورا غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة ، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها .
فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة ، مدركة المقاصد - وهي أصل هذا الكتاب - وأما السمعيات والغيبيات - ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده - فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر " الحق " ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها ، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود .
وهنا يختلف الناس - حسب استقامة فطرتهم أو زيغها - في استقبال هذه الآيات وتلك . فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة ، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة ، ويجرون وراء المتشابه الذي يعول في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره ، والتسليم بأنه هو الذي يعلم " الحق " كله ، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال . كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله ، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . . يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالا لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة ، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر ، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله . . ( وما يعلم تأويله إلا الله ) . .
وأما الراسخون في العلم ، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري ، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له . . أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة :
( آمنا به ، كل من عند ربنا ) . .
يدفعهم إلى هذه الطمأنينة ، أنه من عند ربهم . فهو إذن حق وصدق . وما يقرره الله صادق بذاته . وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله ، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه .
والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله . يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة . . ثم لا يجدون من عقولهم شكا فيه كذلك ؛ لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم ، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه . .
وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم . . فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم ، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء ، وأن ما لم يدركوه لا وجود له ؛ أو يفرضون إدراكهم على الحقائق ، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها . ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم ! صاغتها عقولهم المحدودة ! أما العلماء حقا فهم أكثر تواضعا ، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها . كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه .
( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) . .
وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا . . فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله ، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب .