الآية 7 وقوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } اختلف فيه : قيل : المحكمات هن الناسخات المعمولات بهن والمتشابهات من المنسوخات غير معمول بهن ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وقال آخرون : المحكمات هن ثلاث آيات في سورة الأنعام : قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى قوله : { تتقون } [ 151 و 152 و 153 ] وما ذكر في السورة بني إسرائيل من قوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى آخر هذه الآيات [ 23 و . . . ] سميت محكمة لأن فيها توحيدا وإيمانا بالله ، وغيره من المتشابه . ثم قيل بعد هذا بوجوه : قيل : المحكمات هي التي يعرفها كل واحد{[3597]} إذا نظر فيها ، وتأمل فيها ، والمتشابهة هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب ، وقيل : المحكمات ما يوفق ، ويفهم مراده ، والمتشابه هو الذي لا يوفق البتة بعدما قضى حوائج الخلق من البيان في المحكم منه ، ولكن يلزم الإيمان به ، وهو من الله محنة على عباده . ولله أن يمتحن بما شاء من أنواع المحن لأنها دار محنة ، وغيرها ما لا يفهم مرادها .
ويحتمل أن تكون المحكمات هن ما ظهر لكل أحد من الإسلام حتى لم يختلفوا فيها ، والمتشابه هو الذي اشتبه على الناس لاختلاف الألسن ، فاختلفوا فيها ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه ، فتلعق بعضهم بالظاهر ، فقالوا به ، وتعلق آخرون بالباطن كما رأوا ظاهره جورا وظلما أو تشبيها على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه . ويجوز أن يوفق على المتشابه بمعرفة المحكم ، وقال آخرون : المحكم ، هو الواضح المبين ، فلو كان على ما قالوا / 54-أ/ لم يكن لاختلاف الناس فيه وادعاء كل أن الذي هو عليه ، وهو المحكم ، لأنه لو كان ظاهرا مبينا لتمسكوا به ، ولم يقع بينهم اختلاف .
وفيه دليل على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدين : أنه لا يفعل إلا ذلك ، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم ، ولو بين كان أصلح لهم في الدين . فدل أن الله جل وعلا قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدين امتحانا وابتلاء منه ، والله أعلم ، لكن لا يخرج من الحكمة . ثم قالوا{[3598]} في الأمر حق لئلا يأمر إلا أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدين بمعنى أقرب وأدعى إليه ، والله الموفق .
وقال قوم : المحكم ما في العقل بيانه ، والمتشابه ما لا يدرك في العقل ، وإنما يعرف بمعونة السمع ، وقال قوم : لا متشابه في ما فيه أحكام من أمر ونهي وحلال وحرام ، وإنما ذلك في ما ليس بالناس حاجة إلى العلم به نحو الإنباء عن منتهى الملك ، وعن عدد الملوك ، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود ، ونحو ذلك ، ولا قوة إلا بالله . لكن أمكن أن يكون مسمى تشابه على أولئك القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا . وقد بينا الحق من أمر التشابه وما يجب في ذلك من القول ، وبالله العصمة والنجاة .
وقوله تعالى : { هن أم الكتاب } يحتمل { أم الكتاب } أي أصل الكتاب ، ويحتمل { أم الكتاب } أي المتقدمة على غيرها . وعلى هذا يخرج [ قوله تعالى ]{[3599]} : { أم القرى } [ الأنعام : 92 و . . . ] أعني مكة لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى ، ويحتمل هي أصل القرى كما سميت فاتحة الكتاب أم القرآن لأنها أصل ، ولأنها هي المتقدمة على غيرها من السور ، والله أعلم . ويحتمل قوله : { هن أم الكتاب } أي مقصود الكتاب ؛ يعني المحكمات والمتشابه مما فيه شبه من غيره ، فهو متشابه كقوله : { إن البقر تشابه علينا } [ البقرة : 70 ] ، وكذلك المشكل سمي مشكلا لما يدخل فيه شكل غيره ، فسمي مشكلا ، فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره ، فصار متشابها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ؛ قيل : ميل عن الحق ، وقيل : الزيغ هو الريب والشك ، { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ولو كان ثم اتباع لعذر ، والاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد . وعلى هذا يقولون في قوله : { يتلونه حق تلاوته } [ البقرة : 121 ] أي يتبعونه حق اتباعه ، وكذلك قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] ، والمتشابه قد أنزل{[3600]} إلينا من ربنا ، فيحمد متبعه في الحقيقة [ فثبت أن لم يكن ثم اتباع في الحقيقة ]{[3601]} ، وأنه لو كان لعذر واق ، لكنه ، والله أعلم ، اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة .
ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمة ؟ وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب القيامة ، وذلك علم لم يطلع الله الرسل على ذلك فضلا [ عن أن لم ]{[3602]} يطلع عليه غيرهم .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم في ما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه ، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية في ما إليهم به حاجة ، ولا قوة إلا بالله .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق ، وذلك همتهم ، وكان ذلك اعتقادهم ، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأول ، وإن كان في أصحاب الأهواء من الذين يدينون دين الإسلام فهو الثاني ، وكذلك نجد كل ذي مذهب في الدين ممن اعتقد حقيقة الأمر في قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 2 ] وقوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } الآية ]الإسراء : 9 ] ، وقوله { وإن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } الآية [ النمل : 76 ] يتعلق بظاهر الآية ، يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق ، ويسوي غير ذلك عليه . فإن كان كل على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهرا على ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن تفرق الأمة{[3603]} . ثم أشار [ إلى ]{[3604]} التمسك إلى ما عليه هو وأصاحبه رضي الله عنه فعلى ذلك أمر المتوارث ؛ فيجب جعله محكما وبيانا [ لما ]{[3605]} اختلف عليه ، ولا قوة إلا بالله .
ويكون المبتدع في ابتغاء تأويله يريد التلبيس على من لزم تلك الجماعة{[3606]} وكذلك الأهل جهل في الدين [ من فرع ]{[3607]} كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه . فكان{[3608]} متبع المحكم عند الأمة مطيعا المتشابه منه ، ولا قوة إلا بالله . وإن كان هو الأول فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك الأمة وأن نهايته الساعة ، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلا عمن دونهم ، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك [ فهو يريد ]{[3609]} بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة . فأخبر جل وعلا بما ذكر أنه لا يعلم إلا هو{[3610]} ، وكان ذلك في ما يعلمه غيره ، أو لا . فإن كان [ محمد صلى الله عليه وسلم ، علمه ]{[3611]} فبالله علم ، لا أن في العقول بلوغ ذلك ، ومعنى الاتباع ما قد بين .
وقوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } أي من القرآن : يقول ما اشتبه حسابهم { ابتغاء الفتنة } ، قيل : الفتنة الكفر ، وتحتمل الفتنة المحنة ؛ أي يمتحنون أهل الإسلام .
وقوله تعالى : { وابتغاء تأويله } ؛ يقول : { وابتغاء تأويله } منتهى ما كتب الله جل وعلا بهذه الأمة من المدة لهم والوقت .
وأصل التأويل هو المنتهى ؛ [ قال الله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } أي وما يعلم منتهى ]{[3612]} تلك الأمة [ { إلا الله } ]{[3613]} ثم المتشابه إن كان مما يوقف فيه ، فهو ، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة ، ويعلمه بالواضح ، فهو هو . وأصل هذا أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات الوقوع في المتشابه ولنفسه [ الوقوع ]{[3614]} في الواضح ، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق ، فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح ؛ فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه ، إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به ، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه .
وقوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } قال قوم موضع الوقف على قوله : { والراسخون } ثم ابتدأ ، فقال : { يقولون آمنا به كل من عند الله } يقولون بمعنى قالوا { آمنا به } بما عرفنا ؛ وذلك جائز في اللغة ؛ يقول بمعنى قال . وقال آخرون : موضع الوقف على قوله : { إلا الله } ثم استأنف الكلام ، فقال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } المحكم والمتشابه وغيره . قيل : { والراسخون } هم المتدارسون ، وقيل : المتشابثون : رسخ بمعنى ثبت ، وقيل : { والراسخون } الناتجون ؛ يقال : رسخ في العلم ، ونتج{[3615]} فيه ، فإن قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ؟ قيل : إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين : يحتمل ليعلم فضل العالم على غير العالم ، ويحتمل أن جعل عليهم طلب المراد فيه والفحص عما أودع فيه . وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة ليمتحنهم في ذلك بالوقف فيه ؛ إذ الدار [ دار ]{[3616]} محنة ، ولله أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن .
وقوله تعالى : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } أي ما يتعظ إلا أولو الحجي والعقل .