تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

الآية 7 وقوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } اختلف فيه : قيل : المحكمات هن الناسخات المعمولات بهن والمتشابهات من المنسوخات غير معمول بهن ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وقال آخرون : المحكمات هن ثلاث آيات في سورة الأنعام : قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى قوله : { تتقون } [ 151 و 152 و 153 ] وما ذكر في السورة بني إسرائيل من قوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى آخر هذه الآيات [ 23 و . . . ] سميت محكمة لأن فيها توحيدا وإيمانا بالله ، وغيره من المتشابه . ثم قيل بعد هذا بوجوه : قيل : المحكمات هي التي يعرفها كل واحد{[3597]} إذا نظر فيها ، وتأمل فيها ، والمتشابهة هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب ، وقيل : المحكمات ما يوفق ، ويفهم مراده ، والمتشابه هو الذي لا يوفق البتة بعدما قضى حوائج الخلق من البيان في المحكم منه ، ولكن يلزم الإيمان به ، وهو من الله محنة على عباده . ولله أن يمتحن بما شاء من أنواع المحن لأنها دار محنة ، وغيرها ما لا يفهم مرادها .

ويحتمل أن تكون المحكمات هن ما ظهر لكل أحد من الإسلام حتى لم يختلفوا فيها ، والمتشابه هو الذي اشتبه على الناس لاختلاف الألسن ، فاختلفوا فيها ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه ، فتلعق بعضهم بالظاهر ، فقالوا به ، وتعلق آخرون بالباطن كما رأوا ظاهره جورا وظلما أو تشبيها على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه . ويجوز أن يوفق على المتشابه بمعرفة المحكم ، وقال آخرون : المحكم ، هو الواضح المبين ، فلو كان على ما قالوا / 54-أ/ لم يكن لاختلاف الناس فيه وادعاء كل أن الذي هو عليه ، وهو المحكم ، لأنه لو كان ظاهرا مبينا لتمسكوا به ، ولم يقع بينهم اختلاف .

وفيه دليل على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدين : أنه لا يفعل إلا ذلك ، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم ، ولو بين كان أصلح لهم في الدين . فدل أن الله جل وعلا قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدين امتحانا وابتلاء منه ، والله أعلم ، لكن لا يخرج من الحكمة . ثم قالوا{[3598]} في الأمر حق لئلا يأمر إلا أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدين بمعنى أقرب وأدعى إليه ، والله الموفق .

وقال قوم : المحكم ما في العقل بيانه ، والمتشابه ما لا يدرك في العقل ، وإنما يعرف بمعونة السمع ، وقال قوم : لا متشابه في ما فيه أحكام من أمر ونهي وحلال وحرام ، وإنما ذلك في ما ليس بالناس حاجة إلى العلم به نحو الإنباء عن منتهى الملك ، وعن عدد الملوك ، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود ، ونحو ذلك ، ولا قوة إلا بالله . لكن أمكن أن يكون مسمى تشابه على أولئك القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا . وقد بينا الحق من أمر التشابه وما يجب في ذلك من القول ، وبالله العصمة والنجاة .

وقوله تعالى : { هن أم الكتاب } يحتمل { أم الكتاب } أي أصل الكتاب ، ويحتمل { أم الكتاب } أي المتقدمة على غيرها . وعلى هذا يخرج [ قوله تعالى ]{[3599]} : { أم القرى } [ الأنعام : 92 و . . . ] أعني مكة لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى ، ويحتمل هي أصل القرى كما سميت فاتحة الكتاب أم القرآن لأنها أصل ، ولأنها هي المتقدمة على غيرها من السور ، والله أعلم . ويحتمل قوله : { هن أم الكتاب } أي مقصود الكتاب ؛ يعني المحكمات والمتشابه مما فيه شبه من غيره ، فهو متشابه كقوله : { إن البقر تشابه علينا } [ البقرة : 70 ] ، وكذلك المشكل سمي مشكلا لما يدخل فيه شكل غيره ، فسمي مشكلا ، فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره ، فصار متشابها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ؛ قيل : ميل عن الحق ، وقيل : الزيغ هو الريب والشك ، { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ولو كان ثم اتباع لعذر ، والاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد . وعلى هذا يقولون في قوله : { يتلونه حق تلاوته } [ البقرة : 121 ] أي يتبعونه حق اتباعه ، وكذلك قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] ، والمتشابه قد أنزل{[3600]} إلينا من ربنا ، فيحمد متبعه في الحقيقة [ فثبت أن لم يكن ثم اتباع في الحقيقة ]{[3601]} ، وأنه لو كان لعذر واق ، لكنه ، والله أعلم ، اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة .

ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمة ؟ وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب القيامة ، وذلك علم لم يطلع الله الرسل على ذلك فضلا [ عن أن لم ]{[3602]} يطلع عليه غيرهم .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم في ما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه ، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية في ما إليهم به حاجة ، ولا قوة إلا بالله .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق ، وذلك همتهم ، وكان ذلك اعتقادهم ، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأول ، وإن كان في أصحاب الأهواء من الذين يدينون دين الإسلام فهو الثاني ، وكذلك نجد كل ذي مذهب في الدين ممن اعتقد حقيقة الأمر في قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 2 ] وقوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } الآية ]الإسراء : 9 ] ، وقوله { وإن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } الآية [ النمل : 76 ] يتعلق بظاهر الآية ، يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق ، ويسوي غير ذلك عليه . فإن كان كل على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهرا على ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن تفرق الأمة{[3603]} . ثم أشار [ إلى ]{[3604]} التمسك إلى ما عليه هو وأصاحبه رضي الله عنه فعلى ذلك أمر المتوارث ؛ فيجب جعله محكما وبيانا [ لما ]{[3605]} اختلف عليه ، ولا قوة إلا بالله .

ويكون المبتدع في ابتغاء تأويله يريد التلبيس على من لزم تلك الجماعة{[3606]} وكذلك الأهل جهل في الدين [ من فرع ]{[3607]} كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه . فكان{[3608]} متبع المحكم عند الأمة مطيعا المتشابه منه ، ولا قوة إلا بالله . وإن كان هو الأول فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك الأمة وأن نهايته الساعة ، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلا عمن دونهم ، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك [ فهو يريد ]{[3609]} بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة . فأخبر جل وعلا بما ذكر أنه لا يعلم إلا هو{[3610]} ، وكان ذلك في ما يعلمه غيره ، أو لا . فإن كان [ محمد صلى الله عليه وسلم ، علمه ]{[3611]} فبالله علم ، لا أن في العقول بلوغ ذلك ، ومعنى الاتباع ما قد بين .

وقوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } أي من القرآن : يقول ما اشتبه حسابهم { ابتغاء الفتنة } ، قيل : الفتنة الكفر ، وتحتمل الفتنة المحنة ؛ أي يمتحنون أهل الإسلام .

وقوله تعالى : { وابتغاء تأويله } ؛ يقول : { وابتغاء تأويله } منتهى ما كتب الله جل وعلا بهذه الأمة من المدة لهم والوقت .

وأصل التأويل هو المنتهى ؛ [ قال الله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } أي وما يعلم منتهى ]{[3612]} تلك الأمة [ { إلا الله } ]{[3613]} ثم المتشابه إن كان مما يوقف فيه ، فهو ، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة ، ويعلمه بالواضح ، فهو هو . وأصل هذا أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات الوقوع في المتشابه ولنفسه [ الوقوع ]{[3614]} في الواضح ، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق ، فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح ؛ فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه ، إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به ، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه .

وقوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } قال قوم موضع الوقف على قوله : { والراسخون } ثم ابتدأ ، فقال : { يقولون آمنا به كل من عند الله } يقولون بمعنى قالوا { آمنا به } بما عرفنا ؛ وذلك جائز في اللغة ؛ يقول بمعنى قال . وقال آخرون : موضع الوقف على قوله : { إلا الله } ثم استأنف الكلام ، فقال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } المحكم والمتشابه وغيره . قيل : { والراسخون } هم المتدارسون ، وقيل : المتشابثون : رسخ بمعنى ثبت ، وقيل : { والراسخون } الناتجون ؛ يقال : رسخ في العلم ، ونتج{[3615]} فيه ، فإن قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ؟ قيل : إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين : يحتمل ليعلم فضل العالم على غير العالم ، ويحتمل أن جعل عليهم طلب المراد فيه والفحص عما أودع فيه . وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة ليمتحنهم في ذلك بالوقف فيه ؛ إذ الدار [ دار ]{[3616]} محنة ، ولله أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن .

وقوله تعالى : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } أي ما يتعظ إلا أولو الحجي والعقل .


[3597]:في الأصول وم: أحد.
[3598]:في م: قالوه.
[3599]:ساقطة من الأصل وم.
[3600]:في الأصل وم: أنزلنا.
[3601]:من م، ساقطة من الأصل.
[3602]:في الأصل وم: أن.
[3603]:وهو قوله: (إن بني إسرائيل قد افترقت على ثنتين وسبعين فرقةـ وأنتم تفترقون على مثلها؛ كلها في النار إلا واحدة) انظر المسند 4/241، رقم الحديث (12209).
[3604]:ساقطة من الأصل وم.
[3605]:ساقطة من الأصل وم.
[3606]:في الأصل وم: الجملة.
[3607]:في م: فرفوع عليه.
[3608]:في الأصل وم: لكان.
[3609]:في الأصل وم: يريدون.
[3610]:في الأصل وم: الله.
[3611]:في الأصل وم: اطلعه.
[3612]:من م.
[3613]:من م.
[3614]:من م.
[3615]:الواو ساقطة من م.
[3616]:من م.