{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } متقنات مبينات مفصلات .
{ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرَّغ لأهل الإسلام ، وهنَّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن ، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين ، ولا يختلف فيه أهل كل بلد .
والعرب تسمي كلَّ شيء فاضل جامع يكون مرجعاً لقوم ، كما قيل للَّوح المحفوظ : أم الكتاب ، والفاتحة : أمُّ القرآن ، ولمكَّه : أمَّ القرى وللدماغ : أمُّ الرأس ، وللوالدة : أم ، وللراية : أم ، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال : أم ، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار : أم ، وكان عيسى ( عليه السلام ) يقول : " للماء هذا أبي " ، وللخبز : " هذه أُمَّي " ؛ لأنَّ قوام الأبدان بهما .
وإنَّما قال أُمَّ الكتاب ولم يقل أُمَّهات الكتب ؛ لأنَّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام اللّه واحدٌ .
وقيل : معناه كلمة واحدة فهُنَّ أُمَّ الكتاب كما قال :
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] أي كل واحد منهما آية .
{ وَأُخَرُ } : جمع أخرى ولم يصرف ؛ لأنَّه معدول عن أواخر ، مثل عُمر ، وزفر وهو قاله الكسائي .
وقيل : ترك أخراه ؛ لانَّه نعت مثل جُمع ، وكُسع لم يصرفا ؛ لأنَّهما نعتان .
وقيل : لأنَّه مبني على واحدة في ترك الصرف وواحدة اخرى غير مصروف .
{ مُتَشَابِهَاتٌ } : تشبه بعضها بعضا ، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي : " المحكم : الناسخ الذي يُعمل له " .
" والمتشابه : المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به ، هي رواية عطيه عن ابن عباس " . روى علي ابن أبي طلحة عنه قال : " محكمات القرآن ناسخة ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما يؤمر به ويعمل به " .
والمتشابه : منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به .
زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال : قال ابن عباس : قوله تعالى : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } قال : هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] إلى آخر الآيات الثلاث ، نظيرها في سورة بني اسرائيل
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ }
وقال مجاهد ، وعكرمة : " المحكم : ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه ( يصدَّق ) بعضها بعضا " .
قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : المحكم : مالا يُحتمل من التأويل غير وجه واحد .
والمتشابه : ما أحتمل من التأويل أوجهاً .
وقال ابن زبير : من المحكم ما ذكر اللّه تعالى في كتابه من قصص الانبياء ( عليهم السلام ) ، وفصلت وتنتهِ لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمَّته ، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها ، وقصة هود في عشر آيات ، وقصّة صالح في ثمان آيات ، وقصة إبراهيم في ثمان آيات ، وقصة لوط في ثمان آيات ، وقصة شعيب في عشر آيات ، وقصة موسى في آيات كثيرة .
وذكر ( آيات ) حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية .
والمتشابه : هو ما اختلف به الالفاظ من قصصهم عند التكرير ، كما قال في موضع من قصة نوح :
{ قُلْنَا احْمِلْ } [ هود : 40 ] وقال وفي موضع آخر :
{ فَاسْلُكْ } [ المؤمنون : 27 ] .
{ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } [ طه : 20 ] ، وقال في موضع آخر :
{ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 107 ] ونحوها .
وإن بعضهم قال : " المحكم : ما عرف العلماء تأويله ، وفهموا معناه " .
" والمتشابه : ما ليس لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر اللّه بعلمه " وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدَّنيا ، ومحوها .
وقال أبو فاختة : " المحكمات التي هنَّ أم الكتاب فواتح السور منها يستخرج القرآن
{ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 1-2 ] منها استخرجت البقرة ، و
{ الم * اللَّهُ } [ آل عمران : 1-2 ] أستخرجت آل عمران .
وقال ابن كيسان : " المحكمات حجتها واضحة ، ودلائلها لائحة ، لا حاجة بمن سمعها الى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه ، بالنظر فيه يعرف العوَّام تفصيل الحق فيه من الباطل " .
وقال بعضهم : " المحكم ما أجمع على تأويله ، والمتشابه ما ليس معناه واضح " .
وقال أبو عثمان : المحكم فاتحة الكتاب .
وقال الشعبي : رأيتُ في بعض التفاسير أنَّ المتشابه هو ( ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه ) محكم من وجه على معنى ( بشدَّة ) [ . . . . . ] ، قال اللّه تعالى :
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] .
والمتشابه من وجه فهو إنَّه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً .
وقال ابن عبَّاس في رواية شاذان : المتشابه حروف التهجَّي في أوائل السَّور ، وذلك بأنَّ حكام اليهود هم حُيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم فقال له حيَّي : بلغنا أنَّه أُنزل عليك ( آلم ) أأُنزلت عليك ؟ قال : نعم ، فإن كان ذلك حقَّاً فإنَّي أعلم من هلك بأُمَّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها ؟ قال : نعم والى
{ المص } [ الأعراف : 1 ] ، قال : هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها ؟ قال : نعم
{ الر } [ يونس : 1 ] قال : هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليلة ؟ ونحن ممَّن لا يؤمن بهذا ، فأنزل تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } : أي ميل عن الحق ، وقيل : شك .
{ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه } : اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم وقالوا : ألست تعلم أنَّه كلمة اللّه وروح منه ؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا ذلك ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال الكلبي : هم اليهود [ أجهل ] هذه الأمَّة باستخراجه بحساب الجمل . وقال ابن جري : هم المنافقون . [ قال ] الحسن : هم الخوارج .
وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } قال : إن لم يكونوا آخرون فالسبابيَّة ولا أدري من هم .
وقال بعضهم : هم جميع المُحدثة .
وروي حمَّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعاً عن عبد اللّه بن أبي مليكة الفتح عن عائشة : أنَّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم قرأ هذه الآية : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } فقال صلَّى اللّه عليه وسلَّم : " إذا رأيتم الَّذين يسألون عمَّا تشابه منه ويجادلون فيه الَّذين عنى اللّه عزَّ وجل فاحذروهم ولا تخالطوهم " .
{ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } : طلب الشرك قالهُ الربيع ، والسدي ، وابن الزبير ، ومجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم .
{ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } : تفسيره وعلمهُ دليله قوله تعالى :
{ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] .
وقيل : ابتغاء عاقبته ، وطلب مدة أجل محمَّد ، وامته من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى
{ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] أي عاقبته ، وأصلهُ من قول العرب : تأول الفتى إذا انتهى .
على أنّها كانت تأوّل جها *** تأوّل ربعي السقاب فأصحبا
يقول : هذا السجيُ لها فانقرت لها وابتغتها ، قال اللّه تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها .
فقال قوم : الواو في قوله { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } واو العطف ، يعني أن تأويل المتشابه يعلمهُ اللّه ويعلمهُ الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون : { آمَنَّا بِهِ } .
وهو قول مجاهد والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، واختيار القتيبي قالوا : معناها يعلمونه ويقولون آمنا به فيكون قوله : يقولون ، حالاً والمعنى : الراسخون في العلم قائلين آمنَّا به .
أضربت حبك من امامه *** من بعد أيام برامه
الريح تبكي شجوها *** والبرق يلمعُ في الغمامة
أراد والبرق لامعاً في غمامه وتبكي شجوه أيضاً ، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانهُ معنى .
{ مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ الحشر : 7 ] . ثم قال :
{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 8 ] الآية .
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] : أي والذين تبؤوا الدار ، ثم قال :
{ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] : . ثم أخبر عنهم أنَّهم
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] الآية .
{ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ]عطف على قوله :
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ } [ الحشر : 9 ] ، وانَّهم يشاركون للفقراء المهاجرين والأنصار في الفيء و
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] من جملة
{ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] . فمعنى الآية
{ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وهم مع استحقاقهم الفيء
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } [ الحشر : 10 ] أي قائلين على الحال . فكذلك هاهنا في
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا } [ الحشر : 10 ] أي ويقولون آمنا به .
ومما يؤيد هذا القول أنَّ اللّه تعالى لم ينزل كتابه إلاّ لينتفع له مبارك ، ويدل عليه على المعنى الذي ارادهُ فقال :
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] ، وقال :
{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] .
{ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } [ الأعراف : 52 ] . فوصف جميعهُ بالتفصيل والتبيين وقال :
{ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
ولا يجوز أن تبَّين مالا يعلم ، وإذا جاز أن يعرفهُ الرسول صلى اللّه عليه وسلَّم مع قوله لا يعلمهُ إلاّ اللّه ، جاز أن يعرفهُ الربانيون من أصحابه .
{ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 3 ] ولا تؤمر باتَّباع مالا يُعلم ؛ ولأنَّه لولم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضلُ ؛ لأنهم ايضاً يقولون آمنا به .
{ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } : ولأنَّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية [ قوماً ] يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا : هذا متشابه لا يعلمهُ إلاّ اللّه ، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها .
وكان ابن عباس يقول : في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم .
وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممّن يعلم تأويله .
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة : غسلين ، وحناناً ، والاوَّاه ، والترقيم . وهذا إنَّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسرَّها .
وقال آخرون : الواو في قوله { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } واو الاستئناف وتم الكلام ، وانقطع عند قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } . ثم ابتدأ وقال : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } تلا { وَالرَّاسِخُونَ } مبتدأ وخبره في يقولون ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس ، واختيار الكسائي والفراء والمفضَّل بن سلَّمة ومحمد بن جرير قالوا : إنَّ الراسخين لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يؤمنون به . والآية راجعة على هذا التأويل الى العلم بما في أجَلَ هذه الأمة ووقت قيام الساعة ، وفناء الدنيا ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ( عليه السلام ) ، وخروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، وعلم الروح ونحوها مما استأثر اللّه بعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه .
وقال بعضهم : [ إعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد ] أستأثر اللّه بعلمه دوننا ، ونفسّره نحنُ ، ولم نتعبد بذلك .
بل ألزمنا العمل بأوامره وإجتناب نواهيه ، ومما يصدَّق هذا القول قراءة عبد اللّه أنَّ تأويلهُ لا يُعلم إلاّ عند اللّه ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به .
وفي حرف [ ] ) الراسخون في العلم آمنَّا به .
ودليله أيضاً ما روَّي عن عمر بن عبد العزيز ، إنَّه قرأ هذه الآية ثم قال : انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن الى أن قالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } .
وقال أبو نهيك الأسدي : إنَّكم تصلون هذه الآية وإنَّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربَّية وأشبه مظاهر الآية والقصة واللّه أعلم .
والراسخون : الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم ، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يُقال : ( رسخ الإيمان في قلب فلان ) فهو يرسخ رسخاً ورسوخاً وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ ، وهذا كما يُقال : مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر :
لقد رسخت في القلبِ منك مودة *** للنبي أبتْ آياتها أن تغيرا
وقال بعض المفسّرين من العلماء : الراسخون علماً : مؤمني أهل الكتاب ، مثل عبد اللّه بن سلام و [ ابن صوريا وكعب ] .
[ قيل : ] الراسخون في العلم هم بعض الدارسين علم التوراة .
وروي عن أنس بن مالك [ وأبي الدرداء وأبي أمامة ] : " أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سُئل مَنْ الراسخون في العلم ؟ فقال : " منْ برَّت يمينهُ ، وصدق لسانهُ واستقام قلبهُ ، وعف بطنهُ وفرجهُ ، فذلك الراسخ في العلم " " .
وقال وهيب : سمعتُ مالك بن أنس يُسأل عن تفسير قولهِ { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } من هم ؟ قال : العالم العامل بما علم تبع له .
وقال نافع بن يزيد : كما أن يُقال الراسخون في العلم المؤمنون بالله ، المتذللون في طلب مرضاته ، لا يتعاظمون على من فوقهم ، ولا [ يحقّرون ] من دونهم .
وقال بعضهم : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } : من وجد في عملهِ أربعة أشياء :
التقوى بينهُ وبين اللّه تعالى ، والتواضع بينهُ وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينهُ وبين نفسهُ .
وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم : ( آمنا به ) سمّاهم اللّه تعالى : الراسخين في العلم ؛ فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به أي بالمتشابه { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، ما علمناه وما لم نعلمهُ .
قال المبرد : زعم بعض الناس أن ( عند ) ههنا صلة ومعناهُ كل من ربَّنا . { وَمَا يَذَّكَّرُ } : يتعظ بما في القرآن .
{ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } : ذووا العقول ولبَّ كل شيء خالصه [ فلذلك قيل للعقل لب ] .