جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

{ هو الذي أنزل عليك الكتاب } القرآن { منه آيات محكمات }{[603]} واضحات الدلالة { هنّ أمّ الكتاب{[604]} } أصله يرد إليها{[605]} غيرها ، وهن ناسخ القرآن ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه " {[606]} وما يؤمن به ، ويعمل به أو قوله : ( قل تعالوا ) ( آل عمران : 21 ) ، والآيتان بعدها ، وقوله : ( وقضى ربك ) ( الإسراء : 23 ) ، إلى ثلاث آيات بعدها ، والآيات كلها في تكاملها كآية{[607]} واحدة ، أو كل واحدة منهن أم الكتاب .

{ وأُخر متشابهات } فيها اشتباه في الدلالة لكثير من الناس إلا للمهرة من العلماء ، وبهذا يظهر فضلهم ، وهن المنسوخة ، والمقدم والمؤخر منه ، والأمثال والأقسام ، وما يؤمن به ولا يعمل به ، أو الحروف التي في أوائل السور{[608]} { فأما الذين في قلوبهم زَيغ } عدول عن الحق ، كاليهود ، وقالت : الحروف المقطعة بيان مدة أجل هذه الأمة { فيتّبعون ما تشابه منه } يتعلقون به لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة ، وأما المحكم فتركوه لأنه لا نصيب لهم فيه . { ابتغاء الفتنة } : الإضلال . { وابتغاء تأويله } على ما يشتهونه أو بطلب{[609]} حقيقته وما يئول أمره إليه . { وما يعلم تأويله{[610]} } أي ما هو الحق ، أو حقيقته . { إلا الله{[611]} والرّاسخون{[612]} في العلم } اختلفوا في الوقف على ( الله ) عند أكثر السلف أن تأويل بعض الآيات لا يعلمه أحد إلا الله ، ومن القراء من يقف على قوله : ( والرّاسخون في العلم ) ، وهو قول مجاهد وربيع بن أنس ، وروى عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله . { يقولون آمنا به } خبر الراسخون إن جعلته مبتدأ ، وإلا فهو استئناف أو حال . { كلٌّ } : من المتشابه ، والمحكم . { من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب } وما يتعظ بالقرآن ولا يفهمه إلا ذوو العقول السليمة ، وفي الحديث{[613]} حين سئل عن الراسخين : ( من برت يمينه وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ) .


[603]:قال صاحب الفتح: (والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه أو لا يظهر دلالته لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره وإذا عرفت هذا عرفت أن الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته وعرفوا المتشابه بما يقابلها ثم نقل تحت قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) أقوال العلماء في أن الراسخين في العلم هل يعلمون معنى المتشابهات أم لا؟ إلى أن قال: وأقول هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه، وقد قدمنا ما هو الصواب في تحقيقهما ونزيدك هاهنا إيضاحا وبيانا، فنقول: إن جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه – فواتح السور فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع ما معنى الم، المر، حم، طس، طسم ونحوها، لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها نفسها ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ العربية التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع – ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله به كالروح، وما في قوله: (إن الله عند علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) إلى آخر الآية (لقمان: 34)، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود الشيء محتملا لأمرين احتمالا لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما بين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضا كليّا بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه، وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفا في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة والأمور التي تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب والسنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضائق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما تذهب إليه محكما وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابها سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم/12.
[604]:عن سعيد بن جبير: إنما سماهن أم الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب/12.
[605]:أي: يرجع إليها غيرُها فإن لم يكن مخالفا لها تقبل، وإلا فيحكم ببطلان ما فهمنا منه/12 منه.
[606]:الأول: قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة والضحاك، والسدي وغيرهم، والثاني: رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسعيد بن جبير/12.
[607]:يعني القياس أن يقال هن أمهات الكتاب فأفرد على أن الكل بمنزلة آية واحدة أو على تأويل كل واحدة/12 منه.
[608]:روى عن ابن عباس ومقاتل بن حيان /12 منه.
[609]:هذا قول مقاتل والسدي/12 منه.
[610]:ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى لم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال وتعلق علينا بعلة. وهل يجوز لأحد أن يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه، وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) - - جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته، فقد علم عليّاً التفسير، ودعا لابن عباس فقال: (اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين) [أخرجه الحاكم في (المستدرك) (3/536)، وهذا لفظه، وهو في الصحيحين بلفظ: (اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتاب)]، وما روى عبد الرزاق عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: (كل القرآن أعلم إلا أربعا [في الأصل: ربعا] غسلين وحنانا والأواه والرقيم) – كان هذا من قول ابن عباس في وقت ثم علم ذلك بعد /مـ تأويل مشكل القرآن بتصرف.
[611]:وبعض الأحاديث يؤيدهم، وفي قراءة ابن مسعود إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون، وكذا في قراءة أبي بن كعب/12 منه، وهو المتبادر إلى الفهم من سوق كلام الله /12 وجيز.
[612]:قال بعض العلماء: التأويل يطلق على المعنيين. أحدهما: حقيقة الشيء وما يئول إليه أمره كقول الله حكاية عن يوسف: (هذا تأويل رؤياي من قبل) (يوسف: 100)، وقوله: (يوم يأتي تأويله) (الأعراف: 35). والثاني: التفسير والبيان فإن أريد به الأول فالوقف على الله، وإن أريد به الثاني فالوقف على قوله: (والراسخون في العلم)/12 منه.
[613]:ذكره الهيثمي في (المجمع) (6/324) وقال: (رواه الطبراني وعبد الله بن يزيد ضعيف).