و( الكتابُ ) في هذه الآية : القرآن ، بإِجماع ، والمُحْكَمَاتُ : المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ ، والمُتَشَابِهَاتُ : هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ ، ويظهر فيها ببَادِئ النَّظَرِ : إِما تَعَارُضٌ مع أخرى ، وإما مع العَقْل ، إِلى غير ذلك من أنواع التشابه ، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات ، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ) ، أي : يكون الشيء حراماً في نفسه ، فَيُشْبِهُ عند من لَمْ يُنْعِمِ النظر شيئاً حلالاً ، وكذلك الآية : يكونُ لها في نفسها معنًى صحيحٌ ، فيشبه عنْد مَنْ لم ينعمِ النظر ، أو عند الزائغِ معنًى آخر فاسداً ، فربَّما أراد الاِعتراضَ به على كتاب اللَّه ، هذا عندي معنَى الإِحكام ، والتشابُهِ في هذه الآية .
قال ( ع ) : وأحسنُ ما قيل في هذه الآية قولُ محمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيرِ ، أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ ، وعصمةُ العبادِ ، ودفْعُ الخصومِ والباطل ، ليس لها تصريفٌ ، ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه ، والمُتَشَابِهَاتُ : لها تصريفٌ ، وتحريفٌ ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد .
قال ابن الحاجِبِ في «منتهَى الوُصُولِ » : مسألةٌ في القرآن محكمٌ ، ومتشابهٌ .
قال تعالى : { مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات }[ آل عمران :7 ] .
فالمُحُكَمُ : المتَّضِح المعنى ، قال الرهوني : يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً ، والمُتَشَابَهُ : مقابله إمَّا للاشتراك ، مثل :
{ ثلاثة قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] ، أو للإجمالِ ، مثلُ : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] وما ظاهره التِّشبيهُ ، مثلُ : { مِن رُّوحِي } [ ص : 72 ] ، و{ أَيْدِينَا } [ يس : 71 ] ، و{ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] و{ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] ، و{ يَسْتَهْزِئُ } [ البقرة : 15 ] ، و{ مَكْرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ونحوه ، والظاهرُ : الوقْفُ على : { والراسخون فِي العلم } ، لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ ، انتهى .
قال الرهونيُّ : وسمِّي ما ذكر «مُتَشَابِهاً » ، لاشتباهه على السامِعِ ، قال الرهونيُّ : والحقُّ الوقْفُ على : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } . وهو المرويُّ عن جماعة ، منهم : ابنُ عبَّاسٍ ، وابنُ عمر ، وابنْ مسعودٍ ، ومالكٌ ، وغيرهم ، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ : " وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ [ في العلْمِ ] آمنا بِه " اه .
وقوله تعالى : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } ، أي : معظم الكتاب ، وعُمْدة ما فيه : إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ ، قد فُصِّلَ ، ولم يفرَّطْ في شيء منه ، قال يَحْيَى بْنُ يَعْمَر : كما يقال لمكَّة أمُّ القرى .
قال ( ع ) : وكما يقالُ : أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ ، والمذمَّةُ لهم ، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن ، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ ، فذكر تعالى ، أنه نزَّل الكتابَ على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم ، إِفضالاً منه ، ونعمةً ، وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه ، والغالِبُ فيه ، وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه ، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم ، ويتبعونَ المتشَابِه ، ابتغاء الفِتْنَةِ ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن ، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم .
( م ) : قال أبو البقاءِ : { وَأُخَرُ } : معطوفٌ على { آيات } ، و{ متشابهات } : نعت لأُخَرُ ، اه .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } : يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديقٍ ، وجاهلٍ صاحب بدعةٍ ، والزيغُ : المَيْلُ ، و{ ابتغاء } : نصبٌ على المفعولِ من أجله ، ومعناه : طلبُ الفِتْنَة ، قال الربيع : الفِتْنَة هنا الشرْكُ ، وقال مجاهدٌ : الفتْنَةُ : الشبهاتُ ، واللَّبْسُ على المؤمنين ، ثم قال : { وابتغاء تأويلِهِ } ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ وَمَرْجِعُهُ ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي ، وهو من : آلَ يَؤولُ إذا رجع ، فالمعنى : وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل بل يوقَفُ فيه ، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه ، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه .
ثم قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } أي : وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه .
واختلف في قوله : { والراسخون فِي العلم } ، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ ( عَزَّ وجلَّ ) ، وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ : { آمَنَّا بِهِ } ، وقالتْ طائفةٌ أخرى : و( الراسخُونَ ) : رفْع بالابتداء ، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول ، وخبره ( يَقُولُونَ ) ، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده .
قال ( ع ) : وهذه المسألة إذا تُؤُمِّلَتْ ، قَرُبَ الخلافُ فيها من الاِتفاقِ ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى قسَّم آي الكتابِ قسْمَيْن محكمًا ومتشابهًا ، فالمُحْكَم هو المتَّضِحُ المعنى لكلِّ من يفهم كلامَ العَرَب ، لا يحتَاجُ فيه إِلى نظر ، ولا يتعلَّق به شيء يلبِّس ، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره ، والمتشابه على نوعَيْن منه : ما لا يُعْلَمُ البتَّةَ ، كأمر الرُّوح ، وآمادِ المغيَّبات التي قد أعْلَمَ اللَّه بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه : ما يُحْمَلُ على وجوه في اللغة ، ومَنَاحٍ في كلامِ العربِ ، فَيُتَأوَّلُ ، ويُعْلَم تأويله ، ولا يسمَّى أحدٌ راسِخاً إلاَّ أنْ يعلم من هذا النوع كثيراً ، بحَسَب ما قُدِّر له ، فمَنْ قال : إن الراسخين يعلمون تأويلَ المتشابِهِ ، فمراده النوْعُ الثاني الَّذي ذكرناه ، ومَنْ قال : إن الراسخين لا يعلَمُونَ تأويله ، فمراده النوع الأول ، كأمر الرُّوح ، ووقْتِ الساعةِ ، لكنَّ تخصيصه المتشابه بهذا النوعِ غيرُ صحيحٍ ، بل هما نوعانِ ، كما ذكرنا ، والضمير في { تأويله } عائدٌ على جميع متشابه القرآن ، وهما نوعانِ ، كما ذكرنا ، والرُّسُوخُ : الثبوتُ في الشيءِ ، وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ ، فَقَالَ : ( هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ ، واستقام قَلْبُهُ ) ، قُلْتُ : ومن «جامعِ العَتَبِيَّةِ » ، وسُئِل مالكٌ عن تفسيرِ الراسِخِينَ في العلْمِ ، فقال : العالِمُونَ العاملُونَ بما علموا ، المتَّبِعُونَ له ، قال ابنُ رُشْدٍ : قولُ مالِكٍ هذا هو معنى ما رُوِيَ من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : مَنِ الراسِخُ في العِلْمِ ؟ فقالَ : ( مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ ، وصَدَقَ لِسَانُهُ ، واستقام بِهِ قَلْبُهُ ، وعَفَّ بَطْنُهُ ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ ) ، قال ابنُ رُشْدٍ : ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ ( عز وجل ) : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] ، لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه فَلَيْسَ بعالمٍ ، انتهى .
قلت : وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ ، فمن أحسنها : ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده عن معاذِ بنِ جَبلٍ ، قال : قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( تَعَلَّمُوا العِلْمَ ، فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ ، لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً ، فتُقْتَصُّ آثَارُهُمْ ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ ، وينتهى إلى رَأْيِهِمْ ، وَتَرْغَبُ المَلاَئِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ ، وَحِيتَانُ البَحْرِ وهَوَامُّهُ ، وَسِبَاعُ البَرِّ وأَنْعَامُهُ ، لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ ، وَمَصَابِيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ ، يَبْلُغُ العَبْدُ بَالعِلْمِ مَنَازِلَ الأَخْيَارَ ، وَالدَّرَجَاتِ العلى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، الفِكْرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيَامَ ، بِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ ، وَبِهِ يُعْرَفُ الحَلاَلُ مِنَ الحَرَامِ ، هُوَ إِمَامُ العَمَلِ ، وَالعَمَلُ تَابِعُهُ ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ ) قال أبو عمر : هكذا حدَّثنيه عُبَيْدُ بْنُ محمَّدٍ مرفوعاً بالإِسناد الَّذِي روَيْناه به عنه ، وهو حديثٌ حسنٌ جِدًّا ، ولكن ليس له إِسناد قويٌّ ، وَرَوَيْنَاهُ من طرقٍ شتى موقوفًا على معاذ . انتهى من كتاب «فَضْل العِلْمِ » .
قال الشيخُ العارِفُ أبو القاسِمِ عبْدُ الرحمنِ بْنُ يُوسُفَ اللجائي رحمه اللَّه : " ومن علامة نورِ العلْمِ ، إذا حلَّ بالقلب : المعرفةُ والمراقبةُ ، والحياءُ والتوبةُ ، والوَرَعُ والزُّهْد ، والتوكُّل والصَّبْر ، والرضى والأنس ، والمجاهَدَةُ والصَّمْت ، والخَوْف والرجاءُ ، والقَنَاعةُ وذِكْرُ المَوْتِ ) . اه .
وقوله تعالى : { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }[ آل عمران :7 ] فيه ضميرٌ عائدٌ على كتاب اللَّه ، مُحْكَمِهِ ومتشَابِهِهِ ، والتقديرُ : كلُّه من عنْدِ ربِّنا .
ثم قال تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } ، أي : ما يقول هذا ، ويؤمن ويقفُ حيثُ وُقِّفَ ، ويدع اتباع المتشابهِ ، إلاَّ ذُو لُبٍّ ، وهو العقْلُ ، و( أُولُو ) : جمع : ذُو .