الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

و( الكتابُ ) في هذه الآية : القرآن ، بإِجماع ، والمُحْكَمَاتُ : المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ ، والمُتَشَابِهَاتُ : هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ ، ويظهر فيها ببَادِئ النَّظَرِ : إِما تَعَارُضٌ مع أخرى ، وإما مع العَقْل ، إِلى غير ذلك من أنواع التشابه ، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات ، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ) ، أي : يكون الشيء حراماً في نفسه ، فَيُشْبِهُ عند من لَمْ يُنْعِمِ النظر شيئاً حلالاً ، وكذلك الآية : يكونُ لها في نفسها معنًى صحيحٌ ، فيشبه عنْد مَنْ لم ينعمِ النظر ، أو عند الزائغِ معنًى آخر فاسداً ، فربَّما أراد الاِعتراضَ به على كتاب اللَّه ، هذا عندي معنَى الإِحكام ، والتشابُهِ في هذه الآية .

قال ( ع ) : وأحسنُ ما قيل في هذه الآية قولُ محمَّدِ بنِ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيرِ ، أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ ، وعصمةُ العبادِ ، ودفْعُ الخصومِ والباطل ، ليس لها تصريفٌ ، ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه ، والمُتَشَابِهَاتُ : لها تصريفٌ ، وتحريفٌ ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد .

قال ابن الحاجِبِ في «منتهَى الوُصُولِ » : مسألةٌ في القرآن محكمٌ ، ومتشابهٌ .

قال تعالى : { مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات }[ آل عمران :7 ] .

فالمُحُكَمُ : المتَّضِح المعنى ، قال الرهوني : يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً ، والمُتَشَابَهُ : مقابله إمَّا للاشتراك ، مثل :

{ ثلاثة قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] ، أو للإجمالِ ، مثلُ : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] وما ظاهره التِّشبيهُ ، مثلُ : { مِن رُّوحِي } [ ص : 72 ] ، و{ أَيْدِينَا } [ يس : 71 ] ، و{ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] و{ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] ، و{ يَسْتَهْزِئُ } [ البقرة : 15 ] ، و{ مَكْرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ونحوه ، والظاهرُ : الوقْفُ على : { والراسخون فِي العلم } ، لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ ، انتهى .

قال الرهونيُّ : وسمِّي ما ذكر «مُتَشَابِهاً » ، لاشتباهه على السامِعِ ، قال الرهونيُّ : والحقُّ الوقْفُ على : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } . وهو المرويُّ عن جماعة ، منهم : ابنُ عبَّاسٍ ، وابنُ عمر ، وابنْ مسعودٍ ، ومالكٌ ، وغيرهم ، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ : " وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ [ في العلْمِ ] آمنا بِه " اه .

وقوله تعالى : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } ، أي : معظم الكتاب ، وعُمْدة ما فيه : إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ ، قد فُصِّلَ ، ولم يفرَّطْ في شيء منه ، قال يَحْيَى بْنُ يَعْمَر : كما يقال لمكَّة أمُّ القرى .

قال ( ع ) : وكما يقالُ : أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ ، والمذمَّةُ لهم ، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن ، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ ، فذكر تعالى ، أنه نزَّل الكتابَ على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم ، إِفضالاً منه ، ونعمةً ، وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه ، والغالِبُ فيه ، وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه ، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم ، ويتبعونَ المتشَابِه ، ابتغاء الفِتْنَةِ ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن ، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم .

( م ) : قال أبو البقاءِ : { وَأُخَرُ } : معطوفٌ على { آيات } ، و{ متشابهات } : نعت لأُخَرُ ، اه .

وقوله تعالى : { الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } : يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديقٍ ، وجاهلٍ صاحب بدعةٍ ، والزيغُ : المَيْلُ ، و{ ابتغاء } : نصبٌ على المفعولِ من أجله ، ومعناه : طلبُ الفِتْنَة ، قال الربيع : الفِتْنَة هنا الشرْكُ ، وقال مجاهدٌ : الفتْنَةُ : الشبهاتُ ، واللَّبْسُ على المؤمنين ، ثم قال : { وابتغاء تأويلِهِ } ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ وَمَرْجِعُهُ ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي ، وهو من : آلَ يَؤولُ إذا رجع ، فالمعنى : وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل بل يوقَفُ فيه ، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه ، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه .

ثم قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } أي : وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه .

واختلف في قوله : { والراسخون فِي العلم } ، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ ( عَزَّ وجلَّ ) ، وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ : { آمَنَّا بِهِ } ، وقالتْ طائفةٌ أخرى : و( الراسخُونَ ) : رفْع بالابتداء ، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول ، وخبره ( يَقُولُونَ ) ، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده .

قال ( ع ) : وهذه المسألة إذا تُؤُمِّلَتْ ، قَرُبَ الخلافُ فيها من الاِتفاقِ ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى قسَّم آي الكتابِ قسْمَيْن محكمًا ومتشابهًا ، فالمُحْكَم هو المتَّضِحُ المعنى لكلِّ من يفهم كلامَ العَرَب ، لا يحتَاجُ فيه إِلى نظر ، ولا يتعلَّق به شيء يلبِّس ، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره ، والمتشابه على نوعَيْن منه : ما لا يُعْلَمُ البتَّةَ ، كأمر الرُّوح ، وآمادِ المغيَّبات التي قد أعْلَمَ اللَّه بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه : ما يُحْمَلُ على وجوه في اللغة ، ومَنَاحٍ في كلامِ العربِ ، فَيُتَأوَّلُ ، ويُعْلَم تأويله ، ولا يسمَّى أحدٌ راسِخاً إلاَّ أنْ يعلم من هذا النوع كثيراً ، بحَسَب ما قُدِّر له ، فمَنْ قال : إن الراسخين يعلمون تأويلَ المتشابِهِ ، فمراده النوْعُ الثاني الَّذي ذكرناه ، ومَنْ قال : إن الراسخين لا يعلَمُونَ تأويله ، فمراده النوع الأول ، كأمر الرُّوح ، ووقْتِ الساعةِ ، لكنَّ تخصيصه المتشابه بهذا النوعِ غيرُ صحيحٍ ، بل هما نوعانِ ، كما ذكرنا ، والضمير في { تأويله } عائدٌ على جميع متشابه القرآن ، وهما نوعانِ ، كما ذكرنا ، والرُّسُوخُ : الثبوتُ في الشيءِ ، وسئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ ، فَقَالَ : ( هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ ، واستقام قَلْبُهُ ) ، قُلْتُ : ومن «جامعِ العَتَبِيَّةِ » ، وسُئِل مالكٌ عن تفسيرِ الراسِخِينَ في العلْمِ ، فقال : العالِمُونَ العاملُونَ بما علموا ، المتَّبِعُونَ له ، قال ابنُ رُشْدٍ : قولُ مالِكٍ هذا هو معنى ما رُوِيَ من أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : مَنِ الراسِخُ في العِلْمِ ؟ فقالَ : ( مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ ، وصَدَقَ لِسَانُهُ ، واستقام بِهِ قَلْبُهُ ، وعَفَّ بَطْنُهُ ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ ) ، قال ابنُ رُشْدٍ : ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ ( عز وجل ) : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] ، لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه فَلَيْسَ بعالمٍ ، انتهى .

قلت : وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ ، فمن أحسنها : ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده عن معاذِ بنِ جَبلٍ ، قال : قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( تَعَلَّمُوا العِلْمَ ، فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ ، لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً ، فتُقْتَصُّ آثَارُهُمْ ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ ، وينتهى إلى رَأْيِهِمْ ، وَتَرْغَبُ المَلاَئِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ ، وَحِيتَانُ البَحْرِ وهَوَامُّهُ ، وَسِبَاعُ البَرِّ وأَنْعَامُهُ ، لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ ، وَمَصَابِيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ ، يَبْلُغُ العَبْدُ بَالعِلْمِ مَنَازِلَ الأَخْيَارَ ، وَالدَّرَجَاتِ العلى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، الفِكْرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيَامَ ، بِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ ، وَبِهِ يُعْرَفُ الحَلاَلُ مِنَ الحَرَامِ ، هُوَ إِمَامُ العَمَلِ ، وَالعَمَلُ تَابِعُهُ ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ ) قال أبو عمر : هكذا حدَّثنيه عُبَيْدُ بْنُ محمَّدٍ مرفوعاً بالإِسناد الَّذِي روَيْناه به عنه ، وهو حديثٌ حسنٌ جِدًّا ، ولكن ليس له إِسناد قويٌّ ، وَرَوَيْنَاهُ من طرقٍ شتى موقوفًا على معاذ . انتهى من كتاب «فَضْل العِلْمِ » .

قال الشيخُ العارِفُ أبو القاسِمِ عبْدُ الرحمنِ بْنُ يُوسُفَ اللجائي رحمه اللَّه : " ومن علامة نورِ العلْمِ ، إذا حلَّ بالقلب : المعرفةُ والمراقبةُ ، والحياءُ والتوبةُ ، والوَرَعُ والزُّهْد ، والتوكُّل والصَّبْر ، والرضى والأنس ، والمجاهَدَةُ والصَّمْت ، والخَوْف والرجاءُ ، والقَنَاعةُ وذِكْرُ المَوْتِ ) . اه .

وقوله تعالى : { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }[ آل عمران :7 ] فيه ضميرٌ عائدٌ على كتاب اللَّه ، مُحْكَمِهِ ومتشَابِهِهِ ، والتقديرُ : كلُّه من عنْدِ ربِّنا .

ثم قال تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } ، أي : ما يقول هذا ، ويؤمن ويقفُ حيثُ وُقِّفَ ، ويدع اتباع المتشابهِ ، إلاَّ ذُو لُبٍّ ، وهو العقْلُ ، و( أُولُو ) : جمع : ذُو .