{ الكتاب } هو : القرآن ، فاللام للعهد ، وقدم الظرف ، وهو { عليك } لما يفيده من الاختصاص . وقوله : { مِنْهُ آيات محكمات } الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدّماً ، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره : من الكتاب آيات بينات ، على نحو ما تقدّم في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } [ البقرة : 8 ] وإنما كان أولى ؛ لأن المقصود انقسام الكتاب إلى القسمين المذكورين لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب ، والجملة حالية في محل نصب ، أو مستأنفة لا محل لها .
وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات ، والمتشابهات على أقوال : فقيل : إن المحكم : ما عرف تأويله ، وفهم معناه ، وتفسيره ، والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ؛ ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله ، والشعبي ، وسفيان الثوري ، قالوا : وذلك بجر الحروف المقطعة في أوائل السور . وقيل : المحكم : ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً ، فإذا ردّت إلى وجه واحد ، وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً ، وقيل : إن المحكم ناسخه ، وحرامه ، وحلاله ، وفرائضه ، وما نؤمن به ، ونعمل عليه ، والمتشابه : منسوخه ، وأمثاله ، وأقسامه وما نؤمن به ، ولا نعمل به . روى هذا عن ابن عباس ، وقيل : المحكم : الناسخ ، والمتشابه : المنسوخ ، روي عن ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك ؛ وقيل : المحكم : الذي ليس فيه تصريف ، ولا تحريف عما وضع له ، والمتشابه : ما فيه تصريف ، وتحريف ، وتأويل قاله مجاهد ، وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال ، وقيل : المحكم : ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابه : ما يرجع فيه إلى غيره . قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في المحكمات ، والمتشابهات . قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، وهو الجاري على وضع اللسان ، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام : الإتقان ، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ، ولا تردّد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته ، وإتقان تركيبها ، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه ، والإشكال . وقال ابن خويز منداد : للمتشابه وجوه : ما اختلف فيه العلماء : أيّ الآيتين نسخت الأخرى ، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها ، فإن من الصحابة من قال : إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر ، والعشر ، ومنهم من قال بالعكس . وكاختلافهم في الوصية للوارث ، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ، ولم توجد شرائطه ، وكتعارض الأخبار ، وتعارض الأقيسة ، هذا معنى كلامه .
والأولى أن يقال : إن المحكم هو : الواضح المعنى الظاهر الدلالة ، إما باعتبار نفسه ، أو باعتبار غيره ، والمتشابه ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره . وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي ، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته ، وعرفوا المتشابه بما يقابلها .
وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه ، ولا شك أن مفهوم المحكم ، والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه ، فإن مجرد الخفاء ، أو عدم الظهور ، أو الاحتمال ، أو التردّد يوجب التشابه ؛ وأهل القول الثاني : خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال ، والمتشابه بما فيه احتمال ، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم ، والمتشابه لا كلها ، وهكذا أهل القول الثالث ، فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها ؛ وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث ، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً ، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف ، والتحريف ، وجعلوا المتشابه مقابله ، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف ، وتحريف كفواتح السور المقطعة ، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه ، والمتشابه بما لا يقوم بها ، وأن هذا هو بعض أوصافهما ، وصاحب القول السابع ، وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق ، فجعلها محكماً ، وإلى صورة الخلاف ، والتعارض ، فجعلها متشابهاً ، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى ، أو غير مفهوم .
قوله : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي : أصله الذي يعتمد عليه ، ويردّ ما خالفه إليه ، وهذه الجملة صفة لما قبلها . قوله : { وَأُخَرُ متشابهات } وصف لمحذوف مقدر ، أي : وآيات أخر متشابهات ، وهي جمع أخرى ، وإنما لم ينصرف ؛ لأنه عدل بها عن الآخر ؛ لأن أصلها أن يكون كذلك . وقال أبو عبيد : لم ينصرف ؛ لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ، ولا نكرة ، وأنكر ذلك المبرّد . وقال الكسائي : لم تنصرف ؛ لأنها صفة ، وأنكره أيضاً المبرّد . وقال سيبويه : لا يجوز أن يكون { أخر } معدولة عن الألف ، واللام ؛ لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة ، ألا ترى أن «سحر » معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة . قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الزيغ : الميل : ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ؛ ويقال : زاغ يزيغ زيغاً : إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق . وسبب النزول نصارى نجران ، كما تقدّم ، وسيأتي .
قوله : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } أي : يتعلقون بالمتشابه من الكتاب ، فيشككون به على المؤمنين ، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق ، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة ، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء .
قوله : { ابتغاء الفتنة } أي : طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم ، والتلبيس عليهم ، وإفساد ذات بينهم { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أي : طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ، ويوافق مذاهبهم الفاسدة . قال الزجاج : معنى ابتغائهم تأويله : أنهم طلبوا تأويل بعثهم ، وإحيائهم ، فأعلم الله عز وجلّ أن تأويل ذلك ، ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : يوم يرون ما يوعدون من البعث ، والنشور ، والعذاب { يَقُولُ الذين نَسُوهُ } [ الأعراف : 53 ] أي تركوه { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } [ الأعراف : 53 ] أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } التأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولهم : تأويل هذه الكلمة على كذا ، أي : تفسيرها ، ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه ، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه ، أي : صار ، وأوّلته تأويلاً ، أي : صيرته ، وهذه الجملة حالية ، أي : يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله ، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله .
وقد اختلف أهل العلم في قوله : { والراسخون فِي العلم } هل هو كلام مقطوع ، عما قبله ، أو معطوف على ما قبله ؟ فتكون الواو للجمع ، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله ، وأن الكلام تمّ عند قوله : { إِلاَّ الله } هذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم ، وهو مذهب الكسائي ، والفراء ، والأخفش ، وأبي عبيد ، وحكاه ابن جرير الطبري ، عن مالك ، واختاره ، وحكاه الخطابي ، عن ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب قال : وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله ، وزعم أنهم يعلمونه ، قال : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال : معناه : والراسخون في العلم يعلمونه قائلين { آمنا به } وزعم أن موضع { يَقُولُونَ } نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ، ويستبعدونه ؛ لأن العرب لا تضمر الفعل ، والمفعول معاً ، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبْد الله راكباً ، يعني : أقبل عبد الله راكباً ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر : أنشدنيه أبو عمرو . قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب :
أرسَلْتُ فِيها رَجلاً لَكالِكا *** يَقْصُر يَمْشِي وَيَطول بَارِكاً
فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده . وأيضاً ، فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق ، وينسبه لنفسه ، فيكون له في ذلك شريك ، ألا ترى قوله عزّ وجلّ : { قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، وقوله : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله : { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }
[ القصص : 88 ] فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره ، وكذلك قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } ولو كانت الواو في قوله : { والراسخون } للنسق لم يكن لقوله : { كُلٌّ منْ عِندِ رَبّنَا } فائدة . انتهى . قال القرطبي : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره . فقد روي عن ابن عباس : أن الراسخين معطوف على اسم الله عزّ وجلّ ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون : آمنا به . وقاله الربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وغيرهم ، و { يَقُولُونَ } على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال :
الرِيحُ يَبْكِي شَجْوه *** والبرقُ يَلْمَعُ في الغَمَامَهْ
وهذا البيت يحتمل المعنيين ، فيجوز أن يكون ، و «البرق » مبتدأ ، والخبر «يلمع » على التأويل الأوّل ، فيكون مقطوعاً مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعاً . انتهى . ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً مع أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا ، وليس الأمر كذلك ، فالفعل مذكور ، وهو قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } ولكنه جاء الحال من المعطوف ، وهو قوله : { والراسخون } دون المعطوف عليه ، وهو قوله : { إِلاَّ الله } وذلك جائز في اللغة العربية . وقد جاء مثله في الكتاب العزيز . ومنه قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن ديارهم } [ الحشر : 8 ] إلى قوله : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } الآية [ الحشر : 10 ] ، وكقوله : { وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] أي : وجاءت الملائكة صفا صفا ، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً ، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح ، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة ، فاقتضى هذا أن جعل قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً غير صحيح ، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله : { والراسخون فِي العلم } مبتدأ خبره { يَقُولُونَ } ، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه وصفهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم ، وهم لا يعلمون ذلك ؟ ويجاب عن هذا : بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم ؛ لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه ، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ ، وناهيك بهذا من رسوخ . وأصل الرسوخ في لغة العرب : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل ، أو الشجر في الأرض ، ومنه قول الشاعر :
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْر مِنى مَوَدةٌ *** لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أن تُغيَّرا
فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه ، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه . ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان : أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله : { هذا تَأْوِيلُ رؤياى } [ يوسف : 100 ] ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة ؛ لأن حقائق الأمور ، وكنهها لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ ، ويكون قوله : { والراسخون فِي العلم } مبتدأ ، و { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر ، وهو : التفسير ، والبيان ، والتعبير عن الشيء ، كقوله : { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 ] أي بتفسيره فالوقف على { والراسخون فِي العلم } لأنهم يعلمون ، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا ، فيكون { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً منهم ، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله ، وأطنب في ذلك ، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك . قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو : الصحيح ، فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، لكن المتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح ، والساعة مما استأثر الله بعلمه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد ، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه ، فإنما أراد هذا النوع . وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ، فيتأول ، ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى .
واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم ، والمتشابه ؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما ، ونزيدك ها هنا إيضاحاً ، وبياناً ، فنقول : إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور ، فإنها غير متضحة المعنى ، ولا ظاهرة الدلالة ، لا بالنسبة إلى أنفسها ؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم ، آلمر ، حم ، طس ، طسما ونحوها ؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ، ولا من كلام الشرع ، فهي غير متضحة المعنى ، لا باعتبارها نفسها ، ولا باعتبارها أمر آخر يفسرها ، ويوضحها ، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم ، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ، ولا في عرف الشرع ما يوضحها ، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح ، وما في قوله :
{ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } إلى الآخر الآية [ لقمان : 34 ] ، ونحو ذلك ، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره ، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه ، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة ، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه . وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب ، أو في عرف الشرع ، أو باعتبار غيره ، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة ، أو الأمور التي تعارضت دلالتها ، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب ، أو السنة ، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف ، فلا شك ، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ، ومن زعم أنها من المتشابه ، فقد اشتبه عليه الصواب ، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكماً ، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً : سيما أهل علم الكلام ، ومن أنكر هذا ، فعليه بمؤلفاتهم .
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياته } [ هود : 1 ] وقوله : { تِلْكَ آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] والمراد بالمحكم بهذا المعنى : أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة ، والفصاحة على كل كلام . وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ، ومنه قوله تعالى : { كتابا متشابها } [ الزمر : 23 ] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى : أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة ، والفصاحة ، والحسن ، والبلاغة .
وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد : منها : أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ، ومشقة ، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق ، وهم الأئمة المجتهدون ، وقد ذكر الزمخشري ، والرازي ، وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها ، وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا .
قوله : { كُلٌّ منْ عِندِ رَبّنَا } فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم ، والمتشابه ، أي : كله ، أو المحذوف غير ضمير ، أي : كل واحد منهما ، وهذا من تمام المقول المذكور قبله . وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألباب } أي : العقول الخالصة : وهم الراسخون في العلم ، الواقفون عند متشابهه ، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية .