فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

{ الكتاب } هو : القرآن ، فاللام للعهد ، وقدم الظرف ، وهو { عليك } لما يفيده من الاختصاص . وقوله : { مِنْهُ آيات محكمات } الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدّماً ، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره : من الكتاب آيات بينات ، على نحو ما تقدّم في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } [ البقرة : 8 ] وإنما كان أولى ؛ لأن المقصود انقسام الكتاب إلى القسمين المذكورين لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب ، والجملة حالية في محل نصب ، أو مستأنفة لا محل لها .

وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات ، والمتشابهات على أقوال : فقيل : إن المحكم : ما عرف تأويله ، وفهم معناه ، وتفسيره ، والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ؛ ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله ، والشعبي ، وسفيان الثوري ، قالوا : وذلك بجر الحروف المقطعة في أوائل السور . وقيل : المحكم : ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً ، فإذا ردّت إلى وجه واحد ، وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً ، وقيل : إن المحكم ناسخه ، وحرامه ، وحلاله ، وفرائضه ، وما نؤمن به ، ونعمل عليه ، والمتشابه : منسوخه ، وأمثاله ، وأقسامه وما نؤمن به ، ولا نعمل به . روى هذا عن ابن عباس ، وقيل : المحكم : الناسخ ، والمتشابه : المنسوخ ، روي عن ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك ؛ وقيل : المحكم : الذي ليس فيه تصريف ، ولا تحريف عما وضع له ، والمتشابه : ما فيه تصريف ، وتحريف ، وتأويل قاله مجاهد ، وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال ، وقيل : المحكم : ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابه : ما يرجع فيه إلى غيره . قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في المحكمات ، والمتشابهات . قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، وهو الجاري على وضع اللسان ، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام : الإتقان ، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ، ولا تردّد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته ، وإتقان تركيبها ، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه ، والإشكال . وقال ابن خويز منداد : للمتشابه وجوه : ما اختلف فيه العلماء : أيّ الآيتين نسخت الأخرى ، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها ، فإن من الصحابة من قال : إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر ، والعشر ، ومنهم من قال بالعكس . وكاختلافهم في الوصية للوارث ، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ، ولم توجد شرائطه ، وكتعارض الأخبار ، وتعارض الأقيسة ، هذا معنى كلامه .

والأولى أن يقال : إن المحكم هو : الواضح المعنى الظاهر الدلالة ، إما باعتبار نفسه ، أو باعتبار غيره ، والمتشابه ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره . وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي ، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته ، وعرفوا المتشابه بما يقابلها .

وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه ، ولا شك أن مفهوم المحكم ، والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه ، فإن مجرد الخفاء ، أو عدم الظهور ، أو الاحتمال ، أو التردّد يوجب التشابه ؛ وأهل القول الثاني : خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال ، والمتشابه بما فيه احتمال ، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم ، والمتشابه لا كلها ، وهكذا أهل القول الثالث ، فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها ؛ وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث ، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً ، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف ، والتحريف ، وجعلوا المتشابه مقابله ، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف ، وتحريف كفواتح السور المقطعة ، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه ، والمتشابه بما لا يقوم بها ، وأن هذا هو بعض أوصافهما ، وصاحب القول السابع ، وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق ، فجعلها محكماً ، وإلى صورة الخلاف ، والتعارض ، فجعلها متشابهاً ، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى ، أو غير مفهوم .

قوله : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي : أصله الذي يعتمد عليه ، ويردّ ما خالفه إليه ، وهذه الجملة صفة لما قبلها . قوله : { وَأُخَرُ متشابهات } وصف لمحذوف مقدر ، أي : وآيات أخر متشابهات ، وهي جمع أخرى ، وإنما لم ينصرف ؛ لأنه عدل بها عن الآخر ؛ لأن أصلها أن يكون كذلك . وقال أبو عبيد : لم ينصرف ؛ لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ، ولا نكرة ، وأنكر ذلك المبرّد . وقال الكسائي : لم تنصرف ؛ لأنها صفة ، وأنكره أيضاً المبرّد . وقال سيبويه : لا يجوز أن يكون { أخر } معدولة عن الألف ، واللام ؛ لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة ، ألا ترى أن «سحر » معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة . قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الزيغ : الميل : ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ؛ ويقال : زاغ يزيغ زيغاً : إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق . وسبب النزول نصارى نجران ، كما تقدّم ، وسيأتي .

قوله : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } أي : يتعلقون بالمتشابه من الكتاب ، فيشككون به على المؤمنين ، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق ، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة ، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء .

قوله : { ابتغاء الفتنة } أي : طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم ، والتلبيس عليهم ، وإفساد ذات بينهم { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أي : طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ، ويوافق مذاهبهم الفاسدة . قال الزجاج : معنى ابتغائهم تأويله : أنهم طلبوا تأويل بعثهم ، وإحيائهم ، فأعلم الله عز وجلّ أن تأويل ذلك ، ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : يوم يرون ما يوعدون من البعث ، والنشور ، والعذاب { يَقُولُ الذين نَسُوهُ } [ الأعراف : 53 ] أي تركوه { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } [ الأعراف : 53 ] أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } التأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولهم : تأويل هذه الكلمة على كذا ، أي : تفسيرها ، ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه ، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه ، أي : صار ، وأوّلته تأويلاً ، أي : صيرته ، وهذه الجملة حالية ، أي : يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله ، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله .

وقد اختلف أهل العلم في قوله : { والراسخون فِي العلم } هل هو كلام مقطوع ، عما قبله ، أو معطوف على ما قبله ؟ فتكون الواو للجمع ، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله ، وأن الكلام تمّ عند قوله : { إِلاَّ الله } هذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم ، وهو مذهب الكسائي ، والفراء ، والأخفش ، وأبي عبيد ، وحكاه ابن جرير الطبري ، عن مالك ، واختاره ، وحكاه الخطابي ، عن ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب قال : وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله ، وزعم أنهم يعلمونه ، قال : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال : معناه : والراسخون في العلم يعلمونه قائلين { آمنا به } وزعم أن موضع { يَقُولُونَ } نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ، ويستبعدونه ؛ لأن العرب لا تضمر الفعل ، والمفعول معاً ، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبْد الله راكباً ، يعني : أقبل عبد الله راكباً ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر : أنشدنيه أبو عمرو . قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب :

أرسَلْتُ فِيها رَجلاً لَكالِكا *** يَقْصُر يَمْشِي وَيَطول بَارِكاً

فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده . وأيضاً ، فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق ، وينسبه لنفسه ، فيكون له في ذلك شريك ، ألا ترى قوله عزّ وجلّ : { قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، وقوله : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله : { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }

[ القصص : 88 ] فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره ، وكذلك قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } ولو كانت الواو في قوله : { والراسخون } للنسق لم يكن لقوله : { كُلٌّ منْ عِندِ رَبّنَا } فائدة . انتهى . قال القرطبي : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره . فقد روي عن ابن عباس : أن الراسخين معطوف على اسم الله عزّ وجلّ ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون : آمنا به . وقاله الربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وغيرهم ، و { يَقُولُونَ } على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال :

الرِيحُ يَبْكِي شَجْوه *** والبرقُ يَلْمَعُ في الغَمَامَهْ

وهذا البيت يحتمل المعنيين ، فيجوز أن يكون ، و «البرق » مبتدأ ، والخبر «يلمع » على التأويل الأوّل ، فيكون مقطوعاً مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعاً . انتهى . ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً مع أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا ، وليس الأمر كذلك ، فالفعل مذكور ، وهو قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } ولكنه جاء الحال من المعطوف ، وهو قوله : { والراسخون } دون المعطوف عليه ، وهو قوله : { إِلاَّ الله } وذلك جائز في اللغة العربية . وقد جاء مثله في الكتاب العزيز . ومنه قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن ديارهم } [ الحشر : 8 ] إلى قوله : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } الآية [ الحشر : 10 ] ، وكقوله : { وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] أي : وجاءت الملائكة صفا صفا ، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً ، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح ، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة ، فاقتضى هذا أن جعل قوله : { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً غير صحيح ، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله : { والراسخون فِي العلم } مبتدأ خبره { يَقُولُونَ } ، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه وصفهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم ، وهم لا يعلمون ذلك ؟ ويجاب عن هذا : بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم ؛ لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه ، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ ، وناهيك بهذا من رسوخ . وأصل الرسوخ في لغة العرب : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل ، أو الشجر في الأرض ، ومنه قول الشاعر :

لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْر مِنى مَوَدةٌ *** لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أن تُغيَّرا

فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه ، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه . ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان : أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله : { هذا تَأْوِيلُ رؤياى } [ يوسف : 100 ] ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة ؛ لأن حقائق الأمور ، وكنهها لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ ، ويكون قوله : { والراسخون فِي العلم } مبتدأ ، و { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر ، وهو : التفسير ، والبيان ، والتعبير عن الشيء ، كقوله : { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 ] أي بتفسيره فالوقف على { والراسخون فِي العلم } لأنهم يعلمون ، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا ، فيكون { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } حالاً منهم ، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله ، وأطنب في ذلك ، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك . قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو : الصحيح ، فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ، لكن المتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح ، والساعة مما استأثر الله بعلمه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد ، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه ، فإنما أراد هذا النوع . وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ، فيتأول ، ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى .

واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم ، والمتشابه ؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما ، ونزيدك ها هنا إيضاحاً ، وبياناً ، فنقول : إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور ، فإنها غير متضحة المعنى ، ولا ظاهرة الدلالة ، لا بالنسبة إلى أنفسها ؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم ، آلمر ، حم ، طس ، طسما ونحوها ؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ، ولا من كلام الشرع ، فهي غير متضحة المعنى ، لا باعتبارها نفسها ، ولا باعتبارها أمر آخر يفسرها ، ويوضحها ، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم ، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ، ولا في عرف الشرع ما يوضحها ، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح ، وما في قوله :

{ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } إلى الآخر الآية [ لقمان : 34 ] ، ونحو ذلك ، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار غيره ، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه ، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة ، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لا باعتبار نفسه ، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه . وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب ، أو في عرف الشرع ، أو باعتبار غيره ، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة ، أو الأمور التي تعارضت دلالتها ، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب ، أو السنة ، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف ، فلا شك ، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ، ومن زعم أنها من المتشابه ، فقد اشتبه عليه الصواب ، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكماً ، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً : سيما أهل علم الكلام ، ومن أنكر هذا ، فعليه بمؤلفاتهم .

واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياته } [ هود : 1 ] وقوله : { تِلْكَ آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] والمراد بالمحكم بهذا المعنى : أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة ، والفصاحة على كل كلام . وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ، ومنه قوله تعالى : { كتابا متشابها } [ الزمر : 23 ] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى : أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة ، والفصاحة ، والحسن ، والبلاغة .

وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد : منها : أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ، ومشقة ، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق ، وهم الأئمة المجتهدون ، وقد ذكر الزمخشري ، والرازي ، وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها ، وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا .

قوله : { كُلٌّ منْ عِندِ رَبّنَا } فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم ، والمتشابه ، أي : كله ، أو المحذوف غير ضمير ، أي : كل واحد منهما ، وهذا من تمام المقول المذكور قبله . وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألباب } أي : العقول الخالصة : وهم الراسخون في العلم ، الواقفون عند متشابهه ، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية .

/خ9