{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا } أي حزمة شماريخ { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } : قال المفسرون : وكان في مرضه وضره ، قد غضب على زوجته في بعض الأمور ، فحلف : لئن شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة ، فلما شفاه اللّه ، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه ، رحمها اللّه ورحمه ، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ، فيبر في يمينه .
{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ } أي : أيوب { صَابِرًا } أي : ابتليناه بالضر العظيم ، فصبر لوجه اللّه تعالى . { نِعْمَ الْعَبْدُ } الذي كمل مراتب العبودية ، في حال السراء والضراء ، والشدة والرخاء .
{ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع إلى اللّه ، في مطالبه الدينية والدنيوية ، كثير الذكر لربه والدعاء ، والمحبة والتأله .
بين - سبحانه - منة أخرى من المنن التى من بها على عبده أيوب فقال : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } . والجملة الكريمة معطوف على قوله قبل ذلك : { اركض } أو على { وهبنا } بتقدير : وقلنا له .
والضغث فى اللغة : القبضة من الحشيش اختلط فيها الرطب باليابس . وقيل : هى قبضة من عيدان مختلفة يجمعها أصل واحد .
والحنث : يطلق على الإِثم وعلى الخُلْفِ فى اليمين .
والآية الكريمة تفيد أن أيوب - عليه السلام - قد حلف أن يضرب شيئا وأن عدم الضرب يؤدى إلى حنثه فى يمينه ، أى : إلى عدم وفائه فيما حلف عليه ، فنهاه الله - تعالى - عن الحنث فى يمينه ، وأوجد له المخرج الذى يترتب عليه البر فى يمينه دون أن يتأذى المضروب بأى أذى يؤلمه .
وقد ذكروا فيمن وقع عليه الضرب وسبب هذا الضرب ، روايات لعل أقربها إلى الصواب ، أن أيوب أرسل امرأته فى حاجة له فأبطأت عليه ، فأقسم أنه إذا برئ من مرضه ليضربنها مائة ضربه ، وبعد شفائه رخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة - وهى المعبر عنها بالضغث - وبها مائة عود ، ثم يضرب بها مرة واحدة ، وبذلك يكون قد جمع بين الوفاء بيمينه ، وبين الرحمة بزوجته التى كانت تحسن خدمته خلال مرضه ، وتقوم بواجبها نحوه خير قيام .
والمعنى : وهبنا له بفضلنا ورحمتنا أهله ومثلهم معهم ، وقلنا له بعد شفائه خذ بيدك حزمة صغيرة من الحشيش فيها مائة عود ، فاضرب بها من حلفت أن تضربه مائة ضربة ، وبذلك تكون غير حانث فى يمينك .
هذا وقد تكلم العلماء عن هذه الرخصة . أهى خاصة بأيوب ، أم هى عامة للناس ؟ .
فقال بعضهم : إذا حلف الشخص أن يضرب فلانا مائة جلدة ، أو أن يضربه ضربا غير شديد ، فيكفيه مثل هذا الضرب المكذور الذى جاء فى الآية ؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا .
وقال آخرون : هذه الرخصة خاصة بأيوب - عليه السلام - ولا تنسحب إلى غيره ، لأن الخطاب إليه وحده . ولأن الله - تعالى - لم يبين لنا فى الآية كيفية اليمين ، ولا من يقع عليه الضرب .
ثم بين - سبحانه - أنه جعل لعبده أيوب هذا المخرج لصبره وكثرة رجوعه إلى ما يرضيه - تعالى - فقال : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } .
أى : إنا وجدنا عبدنا أيوب صابرا على ما أصبناه به من بلاء ، ونعم العبد هو . إنه كثير الرجوع إلينا فى كل أحواله .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من فضائل أيوب - عليه السلام - ومن النعم التى أنعم الله - تعالى - بها عليه جزاء صبره وطاعته لربه .
وقوله : وَخُذْ بِيَدِكَ ضغْثا يقول : وقلنا لأيوب : خذ بيدك ضغثا ، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرّطْبة ، وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق ومنه قول عوف بن الخَرِع :
وأسْفَلَ مِنّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُها *** وألْقَيْتُ ضِغْثا مِن خَلاً متَطَيّبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا ) يقول : حُزْمة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا فاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال : أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضغْثا ) قال : عيدانا رطبة .
حدثنا أبو هشام الرّفاعيّ ، قال : حدثنا يحيى ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر ، عن أبيه ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا ) قال : هو الأَثْل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَخُذْ بِيَدكَ ضِغْثا . . . ) الاَية ، قال : كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر ، وأرادها إبليس على شيء ، فقال : لو تكلمت بكذا وكذا ، وإنما حملها عليها الجزع ، فحلف نبيّ الله : لئِن اللّهُ شفاه ليجلِدّنها مئة جلدة قال : فأُمِر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا ، والأصل تكملة المِئَة ، فضربها ضَربة واحدة ، فأبرّ نبيّ الله ، وخَفّف الله عن أمَتِهِ ، والله رحيم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا ) يعني : ضِغْثا من الشجر الرّطْب ، كان حلف على يمين ، فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه ، فضرب به ضَرْبة واحدة ، فبرّت يمينه ، وهو اليوم في الناس يمين أيوب ، من أخذ بها فهو حسن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا فاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) قال : ضِغْثا واحدا من الكلأ فيه أكثر من مِئة عود ، فضرب به ضربة واحدة ، فذلك مِئَة ضربة .
حدثني محمد بن عوف ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن جُبَير وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغثا فاضْرِبْ بِهِ يقول : ( فاضرب زوجتك بالضّغْث ) لتَبرّ في يمينك التي حلفت بها عليها أن تضربها وَلا تَحْنَثْ يقول : ولا تحنَثْ في يمينك .
وقوله : ( إنّا وَجَدْناهُ صَابِرا نِعْمَ العَبْدُ ) يقول : إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء ، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله ، والدخول في معصيته نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ يقول : إنه على طاعة الله مقبل ، وإلى رضاه رَجّاع .
و «الضغث » القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجرة الرطب ، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه ، ومنه قولهم : ضغث على إبالة . والإبالة : الحزم من الحطب . و «الضغث » : القبضة عليها من الحطب أيضاً ، ومنه قول الشاعر [ عوف بن الخرع ] : [ الطويل ]
وأسفل مني نهدة قد ربطتها***وألقيت ضغثاً من خلى متطيب
ويروى متطيب . هذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد زنا لرجل زمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها ، فضرب به ضربة ، ذكر الحديث أبو داود ، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة ، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع أصحابه ، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به ، وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات .