معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

قوله تعالى : { الذين يؤمنون } موضع الذين خفض نعتاً للمتقين . يؤمنون : يصدقون ويترك الهمزة أبو عمرو وورش ، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن ، إلا أحرفاً معدودة . وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، قال الله تعالى : " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق لنا ، وهو في الشريعة : الاعتقاد بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فسمي الإقرار والعمل إيماناً ، لوجه من المناسبة ، لأنه من شرائعه : والإسلام : هو الخضوع والانقياد ، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً ، إذا لم يكن معه تصديق ، قال الله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن ، ويكون مصدقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام ، وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد التوبة الزراد البخاري : أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، ثنا أبو أحمد عيسى ، بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر ، يعني بالبصرة ، معبد الجهني ، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ما يقول هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر ، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه ، يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أفق قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء ، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره . ثم قال : حدثنا عمر بن الخطاب قال : " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، ما يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبته تمس ركبته فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، فقال : صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه . ثم قال : فما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وحده . وملائكته وكتبه ورسله ، وبالبعث بعد الموت والجنة والنار ، وبالقدر خيره وشره فقال : صدقت . ثم قال : فما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال : صدقت ثم قال : فأخبرني عن الساعة ؟ فقال : ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل ، قال : صدقت قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال : صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر هل تدري من الرجل ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه " .

قال الفراء : فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسماً لما ظهر من الأعمال ، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد ، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام ، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال : ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ؛ والدليل على أن الأعمال من الإيمان ، ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاة ، ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ، ثنا بشر بن موسى ، ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " .

قيل : الإيمان مأخوذ من الأمان ، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله ، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه .

قوله تعالى : { بالغيب } . والغيب مصدر وضع موضع الاسم ، فقيل للغائب غيب كما قيل للعادل عدل وللزائر زور ، والغيب ما كان مغيباً عن العيون ، قال ابن عباس : الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به ، فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان ؛ وقيل الغيب هاهنا : هو الله تعالى ، وقيل : القرآن ، وقال الحسن : بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريح : بالوحي . نظيره أعنده علم الغيب وقال ابن كيسان : بالقدر . وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ آلم ذلك الكتاب إلى قوله المفلحون . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ، وورش يؤمنون بترك الهمزة ، وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة ، إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم ، نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وتسؤكم وإن نشأ وننسأها ونحوها . أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى ، نحو مؤصدة ورئياً ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل ، إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل إلا الرؤيا وبابه ، إلا ما كان على وزن فعل .

قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها ، وأركانها وهيئاتها ، يقال : قام بالأمر ، وأقام الأمر ، إذا أتى به معطيا حقوقه ، أو المراد بها الصلوات الخمس ، ذكر بلفظ الواحد ، كقوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) يعني الكتب .

والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : ( فصل عليهم ) أي ادع لهم ، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء . وقيل في قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن المؤمنين : الدعاء .

قوله تعالى : { ومما رزقناهم } أي أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد ، وأصله في اللغة الحظ والنصيب .

{ ينفقون } يتصدقون ، قال قتادة : ينفقون في سبيل الله وطاعته . وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد والملك ، ومنه نفاق السوق ، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد ، ومنه : نفقت الدابة إذا أخرجت روحها . فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة ، والأعمال الظاهرة ، لتضمن التقوى لذلك فقال : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } حقيقة الإيمان : هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل ، المتضمن لانقياد الجوارح ، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس ، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر . إنما الشأن في الإيمان بالغيب ، الذي لم نره ولم نشاهده ، وإنما نؤمن به ، لخبر الله وخبر رسوله . فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر ، لأنه تصديق مجرد لله ورسله . فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ، أو أخبر به رسوله ، سواء شاهده ، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله ، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه . بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية ، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم ، ومرجت أحلامهم . وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله .

ويدخل في الإيمان بالغيب ، [ الإيمان ب ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة ، وأحوال الآخرة ، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها ، [ وما أخبرت به الرسل من ذلك ] فيؤمنون بصفات الله ووجودها ، ويتيقنونها ، وإن لم يفهموا كيفيتها .

ثم قال : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } لم يقل : يفعلون الصلاة ، أو يأتون بالصلاة ، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة . فإقامة الصلاة ، إقامتها ظاهرا ، بإتمام أركانها ، وواجباتها ، وشروطها . وإقامتها باطنا{[32]}  بإقامة روحها ، وهو حضور القلب فيها ، وتدبر ما يقوله ويفعله منها ، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وهي التي يترتب عليها الثواب . فلا ثواب للإنسان{[33]}  من صلاته ، إلا ما عقل منها ، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها .

ثم قال : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، والمماليك ونحو ذلك . والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير . ولم يذكر المنفق عليهم ، لكثرة أسبابه وتنوع أهله ، ولأن النفقة من حيث هي ، قربة إلى الله ، وأتى ب " من " الدالة على التبعيض ، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم ، غير ضار لهم ولا مثقل ، بل ينتفعون هم بإنفاقه ، وينتفع به إخوانهم .

وفي قوله : { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ، ليست حاصلة بقوتكم وملككم ، وإنما هي رزق الله الذي خولكم ، وأنعم به عليكم ، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده ، فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم ، وواسوا إخوانكم المعدمين .

وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن ، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود ، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده ، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود ، وسعيه في نفع الخلق ، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه ، فلا إخلاص ولا إحسان .


[32]:- كذا في ب، وفي أ: وباطنها.
[33]:- في ب: للعبد.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .

والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . . الخ ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل . قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :

والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .

قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " . قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أولئك قوم آمنوا بالغيب " تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } . الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلى إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت . ومعنى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .

وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة . أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .

والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .

وإيراد " من " في قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .

هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .

فببذل المال تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء . قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }