قوله تعالى :{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } الآية . أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، وهذا قول ابن عباس . وقال ابن مسعود : الأمانة : أداء الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين ، والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع . وقال مجاهد : الأمانة : الفرائض ، وحدود الدين . وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه . وقال زيد بن أسلم : هو الصوم ، والغسل من الجنابة ، وما يخفى من الشرائع . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعكها ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال بعضهم : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال ، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها ؟ قلن : وما فيها ؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ، فقلن : لا يا رب ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً ، وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله أن لا يقمن بها لا معصية ولا مخالفة ، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسموات والأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } وقال للحجارة : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } وقال تعالى : { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } الآية . وقال بعض أهل العلم : ركب الله عز وجل فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن . وقال بعضهم : المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض ، عرضها على من فيها من الملائكة . وقيل : على أهلها كلها دون أعيانها ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } أي : أهل القرية . والأول أصح ، وهو قول العلماء . { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فليحقهن العقاب ، { وحملها الإنسان } يعني : آدم عليه السلام ، فقال الله لآدم : إني عرضت الأمانة السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحملها آدم ، وقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى مالا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك لحيين وغلاقاً ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر . وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم من غير أن دعي ، وحرك الصخرة ، وقال : لو أمرت بحملها لحملتها ، فقيل له : احملها ، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها ، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقيل له : احملها فحملها إلى حقوه ، ثم وضعها ، وقال : والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له : أحمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها فقال الله : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة { إنه كان ظلوماً جهولاً } قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً لأمر الله وما احتمل من الأمانة . وقال الكلبي : ظلوماً حين عصى ربه ، جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل . وذكر الزجاج : وغيره من أهل المعاني ، في قوله وحملها الإنسان قولا ، فقالوا : إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء ، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له . وقيل : قوله : { فأبين أن يحملنها } أي : أدين الأمانة ، يقال : فلان لم يتحمل الأمانة أي : لم يخن فيها وحملها الإنسان أي : خان فيها ، يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة . قال الله تعالى : وليحملن أثقالهم{ إنه كان ظلوماً جهولاً } . حكى عن الحسن على هذا التأويل : أنه قال ( وحملها الإنسان ) يعني الكافر والمنافق ، حملا الأمانة أي : خانا . وقول السلف ما ذكرنا .
{ 72 - 73 } { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
يعظم تعالى شأن الأمانة ، التي ائتمن اللّه عليها المكلفين ، التي هي امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية ، كحال العلانية ، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة ، السماوات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم ، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها ، فلك الثواب ، وإن لم تقومي بها ، [ ولم تؤديها ] فعليك العقاب .
{ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي : خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ ، لا عصيانًا لربهن ، ولا زهدًا في ثوابه ، وعرضها اللّه على الإنسان ، على ذلك الشرط المذكور ، فقبلها ، وحملها مع ظلمه وجهله ، وحمل هذا الحمل الثقيل . فانقسم الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام :
منافقون ، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا ، ومشركون ، تركوها ظاهرًا وباطنًا ، ومؤمنون ، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.