غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

41

ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله { إنا عرضنا الأمانة } فقيل : العرض حقيقة . وقيل : أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسموات فرجحت الأمانة . والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولك يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكباراً وههنا استصغاراً بدليل قوله { وأشفقن منها } وقد يقال : المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات ، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام . واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة ، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط ، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة ، والجبال لا يطلب منها السير ، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس . وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداة فله الكرامة . فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر ، أو المراد هو التصوير المذكور . وقد خص بعضهم التكليف بقول " لا إله إلا الله " . والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه ، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال : فلان ركب عليه الدين . فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدٍّ للأمانة وقاضٍ حقها وإلا فهو حامل لها . ولا ريب أن السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى ، والأرض ثابتة في مستقرها ، والجبال راسخة في أمكنتها ، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] إلا الإنسان فإن كثيراً من الأشخاص بل أكثرهم مائلة إلى أسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد ، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته . فاللام في { الإنسان } للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس . وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة . وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة ، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلاً ، وكلا المحذورين موجود في التكليف . وأيضاً كان الزمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت . وأيضاً قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت ، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولاً ، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوماً وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب . واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها ، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال

{ إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] وقيل : إنه كان ظلوماً جهولاً في ظن الملائكة حيث قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وقال الحكيم : المخلوقات على قسمين : مدرك وغير مدرك . والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل ، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا

{ وقالوا سبحانك لا علم لنا } [ البقرة : 32 ] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات . ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته . فغير الإنسان إن كان مكلفاً كان بمعنى كونه مخاطباً لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة . وفي قوله { وحملها الإنسان } دون أن يقول " وقبلها " إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم . ( لطيفة ) . الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أميناً عليها ، والقول قول الأمين فهو فائز . وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز .

/خ73