لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

قوله عز وجل { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } الآية قال ابن عباس : أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إذا أدوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود : الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث ، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان وأشد من هذا كله الودائع وقيل : جميع ما أمروا به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة وما يخفى من الشرائع ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان الفرج وقال : هذه الأمانة استودعكها فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واليد أمانة والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له ، وفي رواية عن ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ، ولا معاداً في شيء لا في قليل ولا كثير فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن وما فيها قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن قلن يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله تعالى : أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره ، وكان العرض عليهم تخييراً لا إلزاماً ، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل ، مطيعة لأمره ساجدة له قال بعض أهل العلم ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهم الأمانة ، حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقيل المراد من العرض على السموات والأرض ، هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها ، والقول الأول أصح وهو قول العلماء { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب { وحملها الإنسان } يعني آدم قال الله عز وجل لآدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها ، فهل أنت آخذها بما فيها قال يا رب ، وما فيها قال : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم فقال : بين أذني وعاتقي قال الله أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن لا تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلاقاً فإذا خشيت فأغلقه ، واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد فما كان بين أن تحملها ، وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وقيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه ، وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الإجرام ، وأقواه وأشده أن يحتمله ويستقبل به فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته { إنه كان ظلوماً جهولاً } .

قال ابن عباس : إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه وما تحمل من الأمانة وقيل ظلوماً حين عصى ربه جهولاً أي لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقيل ظلوماً جهولاً حيث حمل الأمانة ، ثم لم يف بها وضمنها ولم يف بضمانها وقيل في تفسير الآية أقوال أخر ، وهو أن الله تعالى ائتمن السموات والأرض والجبال على كل شيء ، وائتمن آدم وأولاده على شيء فالأمانة في حق الأجرام العظام هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له ، وقوله فأبين أن يحملنها أي أدين الأمانة ولم يخن فيها وأما الأمانة في حق بني آدم ، فهي ما ذكر من الطاعة والقيام بالفرائض وقوله وحملها الإنسان أي خان فيها ، وعلى هذا القول حكي عن الحسن أنه قال الإنسان هو الكافر والمنافق حملا الأمانة وخانا فيها ، والقول الأول هو قول السلف وهو الأولى .

فصل :

في الأمانة ( ق ) عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا « إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة » ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : « ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام الرجل النومة ، فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً ، وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله ، فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال : للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه على دينه ، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً » .

قوله : نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال جذر الشيء أصله والوكت الأثر اليسير ، كالنقطة في الشيء من غير لونه ، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل وقيل إنما هو النفطات في الجلد ، وقد فسره الحديث والمنتبر المنتفخ وليس فيه شيء ( خ ) عن أبي هريرة قال « بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال : « أين السائل عن الساعة قال : ها أنا يا رسول الله قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال : كيف إضاعتها يا رسول الله قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » وعنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك » أخرجه أبو داود والترمذي . وقال حديث حسن غريب .