في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

63

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان ، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه . وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . والتي أخذها على عاتقه ، وتعهد بحملها وحده ، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات ، وقصور العلم ، وقصر العمر ، وحواجز الزمان والمكان ، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد :

( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) . .

إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة ، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة ، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها ؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها ؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .

وهذه الأرض تدور دورتها ، وتخرج زرعها ، وتقوت أبناءها ، وتواري موتاها ، وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها .

وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب ، وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . . تمضي لشأنها ، بإذن ربها ، وتعرف بارئها ، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .

( وحملها الإنسان ) . .

الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ، ومقاومة انحرافاته ونزغاته ، ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق !

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم ، القليل القوة ، الضعيف الحول ، المحدود العمر ؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .

وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة . ومن ثم ( كان ظلوما )لنفسه( جهولا )لطاقته . هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله . فأما حين ينهض بالتبعة . حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه ، والاهتداء المباشر لناموسه ، والطاعة الكاملة لإرادة ربه . المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال . . الخلائق التي تعرف مباشرة ، وتهتدي مباشرة ، وتطيع مباشرة ، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل . ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء . . حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد . فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ، ومكان بين خلق الله فريد .

إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة . . هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى ، وهو يسجد الملائكة لآدم . وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : ( ولقد كرمنا بني آدم ) . . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله . ولينهض بالأمانة التي اختارها ؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها . . . !