مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال } وهو يريد بالأمانة الطاعة لله وبحمل الأمانة الخيانة . يقال : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها أي يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، إذ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ولهذا يقال : ركبته الديون ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها يعني أن هذا الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها وهو ما يأتي من الجمادات ، وأطاعت له الطاعة التي تليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة كما قال : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . وأخبر أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يسجدون لله وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله ، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، وهذا معنى قوله { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } أي أبين الخيانة فيها وأن لا يؤدينها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } وخفن من الخيانة فيها { وَحَمَلَهَا الإنسان } أي خان فيها وأبى أن لا يؤديها { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } لكونه تاركاً لأداء الأمانة { جَهُولاً } لإخطائه ما يساعده مع تمكنه منه وهو أداؤها .

قال الزجاج : الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا . ومن أطاع من الأنبياء والمؤمنين فلا يقال كان ظلوماً جهولاً . وقيل : معنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاس بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم من ذلك قولهم «لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج » .