فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما هو لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي خفن من الأمانة أن يؤدينها فيلحقهن العقاب ، أو خفن من الخيانة فيها ، واختلف في تفسير الأمانة المذكورة هنا ، فقال الواحدي : معنى الأمانة ههنا في قول جميع المفسرين : الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب ، قال القرطبي : الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور ، وقد اختلف في تفاصيل بعضها فقال ابن مسعود : هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها ، وروي عنه أنها في كل الفرائض وأشدها أمانة المال .

وقال أبي ابن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها ، وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها ، وقال ابن عمر : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه ، وقال هذه أمانة أستودعكها فلا تلبسها إلا بحق فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .

وقال السدي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله وما أبعد هذا القول ، وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا ؟ فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل ، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد ، وأوهن من بيت العنكبوت ، وإن كان تفسير هذا عملا بما تقتضيه اللغة العربية فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أول هذا العالم .

وإن كان هذا تفسيرا منه بمحض الرأي فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به ، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير ، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية فهو قرآن عربي كما وصفه الله ، فإن جاءك تفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلا تلتفت إلى غيره . وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية ، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب ، فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها ، فخذ هذه كلية تنتفع بها ، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا .

قال الحسن : إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت : وما فيها ؟ فقال لها إن أحسنت آجرتك ، وإن أسأت عذبتك ، فقالت لا . قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه ، وقيل له ذلك ، فقال قد تحملتها . وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد قال النحاس : هذا القول هو الذي عليه أهل التفسير .

وقيل : هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها كذا قال بعض المتكلمين مفسرا للقرآن برأيه الزائف ، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا ، قال جماعة من العلماء : من المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب فلا بد من تقدير الحياة فيها ، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام ، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة لأمره ساجدة له ، وقيل : المراد بالعرض هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها ، وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل أي أن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل وهذا كقوله { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } .

وقيل : إنا عرضنا بمعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها ، وقيل إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال ، إنما كان من آدم عليه السلام وإن أمره أن يعرض ذلك عليها وهذا أيضا تحريف لا تفسير ، وقد قيل : إن المراد بالأمانة العقل ، والراجح ما قدمناه عن الجمهور وما عداه فلا يخلوا عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ، ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ، ولا موافقته لما تقتضيه التعريف بالأمانة .

عن ابن عباس في الآية قال : لأمانة الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها .

وعنه في الآية قال : عرضت على آدم فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذبتك ، قال : قبلتها بما فيها فما كان إلا من بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب ، وعنه : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ، ولا معاهدا في شيء لا في قليل ولا في كثير ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال ، وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف .

وإنما أتى في قوله فأبين إلخ بضمير كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك ، وإن كان مذكرا وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السموات على المذكر وهو الجبال .

{ وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ } أي التزم بحقها وهو آدم بعد عرضها عليه ؛ قيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الأجرام وأقواه وأشده أن يحتمله ويشتغل به فأبى حمله وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته .

قال الزجاج : معنى حملها خان فيها وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة . وقيل : معنى حملها كلفها وألزمها أو صار مستعدا لها بالفطرة أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر ، عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم .

{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } أي وهو في ذلك الحمل ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه ، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير أو جهول بأمر ربه كما قال الحسن ، وقيل ظلوما حين عصى ربه ، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقيل : ظلوما جهولا حيث حمل الأمانة ولم يف بها ، وضمنها ولم يف بضمانها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم وفي تفسير الآية أقوال أخر والأول أولى وهو قول السلف .