الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

{ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض } الآية .

قال ابن جبير والحسن الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على عباده ، فلم تقدر على حملها ، وعرضت على آدم فحملها {[55728]} . { إنه كان ظلوما } أي لنفسه ، { جهولا } أي جاهلا بالذي له فيه الحظ . قال جويبر : فلما عرضت على آدم ، قال : أي رب [ وما الأمانة ] {[55729]} ؟ فقيل له : إن أديتها جزيت وإن أضعتها عوقبت قال أي رب ، حملتها بما فيها ، قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية فأخرج منها {[55730]} .

وروي هذا القول عن ابن عباس ، قال ابن عباس : عرضت الفرائض على السماوات والأرض والجبال فكرهن ذلك وأشفقن من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقمن به ، ثم عرضها على آدم فقبلها {[55731]} . والحمل هاهنا من الحمالة والضمان ، وليس من الحمل على الظهر ولا في الصدر .

وقيل : الأمانة هاهنا أمانات الناس والصلاة والصوم والوضوء {[55732]} . وهذا القول كالأول لأنه كله فروض وأداء أمانات الناس فرض فهو القول الأول بعينه .

وقيل : هو ائتمان آدم ولده قابيل على أخيه هابيل فقتله . رواه السدي عن ابن عباس في حديث مرسل {[55733]} .

وقيل : المعنى : إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة والجن والإنس ، فأبين أن يحملنها ، أي يحملن وزرها ، وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق .

وذكر القتبي : أن الله جل ذكره عهد إلى آدم وأمره وحرم عليه وأحل له فعمل بذلك فلما حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من سيخلفه بعده ويقلده من الأمانة ما قلد ، فأمره أن يعرض ذلك على أهل السماوات والأرض والجبال بالشرط الذي شرطه الله عليه من الثواب إن وفى والعقاب إن عصى ، فأبين أن يقبلن ذلك شفقا {[55734]} من عقاب الله ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فقبله بالشرط لجهله لعاقبة ما تقلد {[55735]} . ولذلك ظهر إيمان المؤمن ونفاق المنافق وكفر الكافر ، ولذلك قال تعالى بعد ذلك : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات } إلى آخر السورة .

فقال أبو إسحاق في الأمانة : إن الله جل ذكره ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته ، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع {[55736]} له ، فأما السماوات والأرض والجبال فأعلمتا بطاعتهن له ، قال تعالى : { ثم استوى إلى السماء } الآية .

{ قالتا أتينا طائعين } {[55737]} : وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وأن الشمس والقمر والنجوم ( والملائكة ) {[55738]} يسبحون لله ، فأعلمنا أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وتأديتها ، وأداؤها طاعة الله فيما أمر به وترك المعصية وحملها الإنسان {[55739]} .

قال الحسن : الكافر والمنافق حملا الأمانة أي : خاناها ولم يطيقاها {[55740]} . وتصديق ذلك قوله : { ليعذب الله المنافقين } الآية .

وقيل : المعنى : أن الله جل ذكره عرض على السماوات أن ينزل قطرها في إبانه بلا ملائكة يوكلون بها ، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت ، وعرض على الأرض أن يخرج نباتها وأنهارها وما يكوننها في آجاله بلا ملائكة يوكلون بها ، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت ، وعرض على الجبال أن تفجر أنهارها وتخرج ثمارها وأشجارها على أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت وأشفقت الجميع من العقاب ، وعرض على آدم أداء الفرائض على أن له الثواب وعليه العقاب ، فقال : بين أذني وعاتقي فوكل معه ملائكة يسددونه ويوفقونه .

ثم قال تعالى : { إنه كان ظلوما جهولا } .

قال الضحاك : ظلوما لنفسه ، جاهلا فيما احتمل بينه وبين ربه {[55741]} .

وقال قتادة : ظلوما لها يعني الأمانة جهولا عن حقها {[55742]} .


[55728]:انظر: جامع البيان 22/54 ومعاني الزجاج 4/238 والدر المنثور 22/54
[55729]:تكملة من جامع البيان 22/54، حيث سقطت من الأصل ويقتضيها السياق
[55730]:انظر: جامع البيان 22/54
[55731]:انظر: المصدر السابق والجامع للقرطبي 14/255، وتفسير ابن كثير 3/522، والدر المنثور 6/668
[55732]:هو قول ابن مسعود في جامع البيان 22/56
[55733]:انظر: جامع البيان 22/56، والمحرر الوجيز 13ـ105 والجامع للقرطبي 14/254 وفتح القدير 4/308
[55734]:الشفق هنا بمعنى الخوف انظر: اللسان مادة "شفق" 10/179
[55735]:انظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 436، وتفسير غريب القرآن له أيضا 352
[55736]:في الأصل "وخضوعه" والتصحيح من معاني الزجاج
[55737]:فصلت آية 10 ونص الآية كاملا هو: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ايتيا طوعا أو كرها}
[55738]:مثبت في طرة أ
[55739]:انظر: معاني الزجاج 4/238
[55740]:انظر: جامع البيان 22/58، ومعاني الزجاج 4/233، والدر المنثور 6/67
[55741]:انظر: جامع البيان 22/57
[55742]:انظر: المصدر السابق