فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها ، فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } .

واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا ، فقال الواحدي : معنى الأمانة هاهنا في قول جميع المفسرين : الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب . قال القرطبي : والأمانة تعمّ جميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور .

وقد اختلف في تفاصيل بعضها ، فقال ابن مسعود : هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها ، وروي عنه : أنها في كل الفرائض : وأشدها أمانة المال . وقال أبيّ بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وقال ابن عمر : أوّل ما خلق الله من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانة استودعكها ، فلا تلبسها إلاّ بحق ، فإن حفظتها حفظتك . فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال السدّي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل ، وخيانته إياه في قتله . وما أبعد هذا القول ، وليت شعري ما هو الذي سوّغ للسدّي تفسير هذه الآية بهذا ، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل ، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد ؛ حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد ، وأوهن من بيوت العنكبوت ، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية ، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ، ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أوّل هذا العالم ، وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأي ، فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به ، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه ، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير ، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية ، فهو قرآن عربيّ كما وصفه الله ، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تلتفت إلى غيره ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم من جملة العرب ، ومن أهل اللغة ، وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية ، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها ، فخذ هذه كلية تنتفع بها ، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا .

قال الحسن : إن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فقالت : وما فيها ؟ فقال لها : إن أحسنت آجرتك ، وإن أسأت عذبتك ، فقالت : لا .

قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه ، وقيل له ذلك فقال : قد تحملتها . وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد . قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقيل : هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها ، إلاّ الإنسان فإنه كتمها وجحدها . كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف ، فيكون على هذا معنى { عرضنا } أظهرنا . قال جماعة من العلماء : ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بدّ من تقدير الحياة فيها ، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام . وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي إن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب ، أي أن التكليف أمر عظيم ، حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل ، وهذا كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ } [ الحشر : 21 ] وقيل : إن { عرضنا } بمعنى عارضنا ، أي عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها . وقيل : إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام ، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها ، وهذا أيضاً تحريف لا تفسير . ومعنى { وَحَمَلَهَا الإنسان } أي التزم بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه ، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير ، أو جهول بربه كما قال الحسن . وقال الزجاج : معنى { حملها } خان فيها ، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة ، وقيل : معنى { حملها } : كلفها وألزمها ، أو صار مستعدًّا لها بالفطرة ، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذرّ عند خروج ذرية آدم من ظهره ، وأخذ الميثاق عليهم .

/خ73