ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها ، فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } .
واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا ، فقال الواحدي : معنى الأمانة هاهنا في قول جميع المفسرين : الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب . قال القرطبي : والأمانة تعمّ جميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور .
وقد اختلف في تفاصيل بعضها ، فقال ابن مسعود : هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها ، وروي عنه : أنها في كل الفرائض : وأشدها أمانة المال . وقال أبيّ بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وقال ابن عمر : أوّل ما خلق الله من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانة استودعكها ، فلا تلبسها إلاّ بحق ، فإن حفظتها حفظتك . فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال السدّي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل ، وخيانته إياه في قتله . وما أبعد هذا القول ، وليت شعري ما هو الذي سوّغ للسدّي تفسير هذه الآية بهذا ، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل ، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد ؛ حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد ، وأوهن من بيوت العنكبوت ، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية ، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ، ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أوّل هذا العالم ، وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأي ، فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به ، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه ، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير ، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية ، فهو قرآن عربيّ كما وصفه الله ، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تلتفت إلى غيره ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم من جملة العرب ، ومن أهل اللغة ، وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية ، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها ، فخذ هذه كلية تنتفع بها ، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا .
قال الحسن : إن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فقالت : وما فيها ؟ فقال لها : إن أحسنت آجرتك ، وإن أسأت عذبتك ، فقالت : لا .
قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه ، وقيل له ذلك فقال : قد تحملتها . وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد . قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقيل : هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها ، إلاّ الإنسان فإنه كتمها وجحدها . كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف ، فيكون على هذا معنى { عرضنا } أظهرنا . قال جماعة من العلماء : ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بدّ من تقدير الحياة فيها ، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام . وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي إن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب ، أي أن التكليف أمر عظيم ، حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل ، وهذا كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ } [ الحشر : 21 ] وقيل : إن { عرضنا } بمعنى عارضنا ، أي عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها . وقيل : إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام ، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها ، وهذا أيضاً تحريف لا تفسير . ومعنى { وَحَمَلَهَا الإنسان } أي التزم بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه ، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير ، أو جهول بربه كما قال الحسن . وقال الزجاج : معنى { حملها } خان فيها ، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة ، وقيل : معنى { حملها } : كلفها وألزمها ، أو صار مستعدًّا لها بالفطرة ، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذرّ عند خروج ذرية آدم من ظهره ، وأخذ الميثاق عليهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.