نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

ولما كان التقدير : ومن لم يطع فقد خسر خسراناً مبيناً ، وكان كل شيء عرض على{[56162]} شيء فالمعروض عليه متمكن من المعروض قادر عليه ، وكان كل شيء أودعه الله شيئاً فحفظه ورعاه وبذله لأهله وآتاه باذلاً للأمانة غير حامل لها . وكل من أودعه شيئاً فضيعه وضمن به عن أهله ومنعه عن مستحقه خائن فيه{[56163]} حامل له ، وكان الله تعالى قد أودع الناس من العقول ما يميزون به بين الصحيح والفاسد ، ومن القوى الظاهرة ما يصرفونه فيما أرادوا من المعصية والطاعة ، فمنهم من استدل بعقله على كل من المحق والمبطل فبذل له من قواه ما يستحقه ، فكان باذلاً للأمانة غير حامل لها ، ومنهم من عكس ذلك وهم الأكثر فكان حاملاً لها{[56164]} خائناً فيها أمر به من بذلها ، وأودع سبحانه الأكوان ما فيها من المنافع من{[56165]} المياه والمعادن والنباتات{[56166]} فبذلته ولم تمنعه من أحد طلبه مع أن منعها له في حيِّز الإمكان ، قال تعالى معللاً للأمر بالتقوى ، أو مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على أن هذا الأمر مما{[56167]} يحق أن يؤكد تنبيهاً على دقته ، وأنه مما لا يكاد أن يفطن له كثير من الناس فضلاً عن أن يصدقوه لافتاً القول إلى مظهر العظمة دلالة على عظيم جرأة الإنسان{[56168]} : { إنا عرضنا الأمانة } أي أداءها أو حملها أو منعها أهلها ، وهي طاعته سبحانه فيما أمر به العاقل ، وفيما أراده من غيره ، ولم يذكر المياه والرياح لأنهما من جملة ما في الكونين من الأمانات اللاتي يؤديانها على حسب الأمر { على السماوات } بما فيها من المنافع { والأرض } بما فيها من المرافق والمعادن . ولما أريد التصريح بالتعميم قال : { والجبال } و{[56169]} لأن أكثر المنافع فيها { فأبين } على عظم{[56170]} أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها { أن يحملنها } فيمنعها ويحبسنها عن أهلها ، قال الزمخشري{[56171]} : من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، أي لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ، ألا تراهم {[56172]}يقولون : ركبته الديون ولي عليه حق ، فإذا {[56173]}أداها لم تبق{[56174]} راكبة له ولا هو حاملاً لها { وأشفقن منها } فبدل كل منهن{[56175]} ما أودعه الله فيه في وقته كما أراده الله ، وهو معنى : أتينا طائعين ، والحاصل أنه جعلت الإرادة وهي{[56176]} الأمر التكويني في حق الأكوان لكونها لا تعقل كالأمر التكليفي التكويني في حقنا لأنا نعقل{[56177]} تمييزاً بين من يعقل ومن لا يعقل في الحكم ، كما ميز بينهما في الفهم إعطاءً لكل منهما ما يستحقه رتبته - وهذا هو معنى ما نقله البغوي{[56178]} عن الزجاج وغيره من أهل المعاني ، وما أحسن ما قاله النابغة زياد بن معاوية الذبياني {[56179]}حيث قال{[56180]} :

أتيتك عارياً خلقاً ثيابي{[56181]} *** على خوف تظن بي الظنون

فألفيت{[56182]} الأمانة لم تخنها *** كذلك كان نوح لا يخون

قال ابن الفرات : إن عمر رضي الله عنه قال لما قيل له إن النابغة قائلهما{[56183]} : هو أشعر شعرائكم .

ولما كان الخائن أكثر من الأمين أضعافاً مضاعفة ، وكانت النفس بما أودع فيها من الشهوات والحظوظ محل النقائص ، قال تعالى : { وحملها الإنسان } أي أكثر الناس والجن ، فإن الإنسان الأنس ، والإنس والأناس{[56184]} الناس ، وقد تقدم في

{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم }[ الأعراف : 85 ] {[56185]}في الأعراف{[56186]} أن الناس يكون من الإنس ومن الجن ، وأنه جمع إنس وأصله أناس ، والإسناد إلى الجنس لا يلزم منه أن يكون كل فرد منه كذلك ، فهو هنا باعتبار الأغلب ، وفي التعبير به إشارة إلى أنه لا يخون إلا من هو في{[56187]} {[56188]}أسفل الرتب{[56189]} لم يصل إلى حد النوس .

ولما كان الإنسان - لما له بنفسه من الأنس{[56190]} وفي صفاته من{[56191]} العشق ، وله من {[56192]}العقل والفهم{[56193]} - يظن أنه لا نقص فيه ، علل ذلك بقوله مؤكداً : { إنه } على ضعف قوته{[56194]} وقلة حيلته { كان } أي في جبلته{[56195]} إلا من عصم الله { ظلوماً } يضع الشيء في غير محله كالذي في الظلام لما غطى من شهواته على عقله ، ولذلك قال : { جهولاً * } أي فجهله يغلب على حلمه{[56196]} فيوقعه في الظلم ، فجعل كل من ظهور ما أودعه الله في الأكوان وكونه في حيز الإمكان كأنه عرض عليها كل من حمله وبذله كما أنه جعل تمكين الإنسان من كل من{[56197]} إبداء ما اؤتمن عليه وإخفائه كذلك .


[56162]:زيد في ظ ومد: كل.
[56163]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: له.
[56164]:زيد من ظ وم ومد.
[56165]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: "و".
[56166]:في ظ وم ومد: النبات.
[56167]:زيد من ظ وم ومد.
[56168]:زيد من ظ ومد.
[56169]:زيد من ظ وم ومد.
[56170]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أعظم.
[56171]:راجع الكشاف تفسير الآية المتعلقة.
[56172]:العبارة من هنا إلى "حاملا لها" ساقطة من ظ.
[56173]:من م ومد، وفي الأصل: أدها يبق.
[56174]:من م ومد، وفي الأصل: أدها يبق.
[56175]:زيد من ظ وم ومد.
[56176]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: هو.
[56177]:من م ومد، وفي الأصل وظ: تعقل.
[56178]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 5/230.
[56179]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[56180]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[56181]:من ظ وم ومد والأغاني 11/22، وفي الأصل: بأني.
[56182]:من مد والأغاني، وفي الأصل وظ وم: فألقيت.
[56183]:في م: قائلها.
[56184]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الناس.
[56185]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56186]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56187]:زيد من ظ وم ومد.
[56188]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: سفل الترتب.
[56189]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: سفل الترتب.
[56190]:زيد من ظ وم ومد.
[56191]:زيد من ظ وم ومد.
[56192]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الفهم والعقل.
[56193]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الفهم والعقل.
[56194]:سقط من ظ.
[56195]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: حيلة.
[56196]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: جهله.
[56197]:من مد، وفي الأصل وظ وم: ما.