الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ } قيل : كان العَرْض على أعيان هذه الأشياء ، فأفهمهنّ الله خطابه وأنطقهنّ . وقيل : عرضها على من فيها من الملائكة . وقيل : عرضها على أهلها كلّها دون أعيانها ، وهذا كقوله :

{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] [ أي أهلها ] .

{ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } مخافةً وخشيةً لا معصية ومخالفة ، وكان العَرض تخييراً لا إلزاماً { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } واختلفوا في الأمانة ، فقال أكثر المفسّرين : هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عَرَضها على السماوات والأرض والجبال ، إنْ أدّوها أثابهم وإنْ ضيّعوها عذّبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا : لا ، نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً .

فقال الله تعالى لآدم : إنّي عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا ربّ وما فيها ؟ قال : إنْ أحسنت جُزيت ، وإنْ أسأت عوقبت ، فتحمّلها آدم صلوات الله عليه وقال : بين أُذني وعاتقي ، فقال الله تعالى : أمّا إذا تحمّلت فسأُعينك فاجعل لبصرك حجاباً ، فإذا خشيت أنْ تنظر إلى ما لايحلّ لك فأرخِ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقاً ، فإذا خشيت فاغلق ، واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرَّمتُ عليك .

قالوا : فما لبث آدم إلاّ مقداراً ما بين الظهر والعصر حتى أُخرج من الجنّه . وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين . وأبو العالية : هي ما أُمروا به ونُهوا عنه . وقال زيد بن أسلم وغيره : هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين .

أنبأني عقيل بن محمد ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير الطبري ، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال : أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة وأبان بن أبي عبّاس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : خمس مَنْ جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمان دخل الجنّة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهنّ ومواقيتهنّ ، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس وكان يقول : [ وأيم ] الله لا يفعل ذلك إلاّ مؤمن وأدّى الأمانة .

قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة . قال : الله عزّ وجلّ لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .

وبه عن ابن جرير عن ابن بشّار ، عن عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن أُبيّ بن كعب قال : من الأمانة أنّ المرأة أُئتمنت على فرجها .

وقال عبد الله بن عمر بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانة استودعتكها . فالفرج أمانة ، والأُذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .

وقال بعضهم : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهد ، فحق على كل مؤمن ألاّ يغش مؤمناً ، ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، وقال السدي بإسناده : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانته إياه في قتل أخيه وذكر القصة إلى أن قال : قال الله عز وجل لآدم : يا آدم هل تعلم أنّ لي في الأرض بيتاً ؟ قال : اللهم لا .

قال : فإن لي بيتاً بمكة فأته . فقال آدم للسماء : " احفظي ولدي بالأمانة " ، فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، وقال لقابيل فقال : نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك . فانطلق آدم ( عليه السلام ) ، فرجع وقد قتل قابيل هابيل ، فذلك قوله عز وجل : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ } يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله .

وقال الآخرون : { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } يعني آدم . ثم اختلفت عباراتهم في معنى ( الظلوم ) و( الجهول ) ؛ فقال ابن عباس والضحاك : { ظَلُوماً } لنفسه { جَهُولاً } غِرّاً بأمر الله وما احتمل من الأمانة . قتادة : { ظَلُوماً } للأمانة { جَهُولاً } عن حقها . الكلبي : { ظَلُوماً } حين عصى ربه ، { جَهُولاً } لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة . الحسين بن الفضل : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } عند الملائكة لا عند الله .

{ لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } .