معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المدثر

مكية وآياتها ست وخمسون

{ يا أيها المدثر } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : " سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ قال : { يا أيها المدثر } ، قلت : يقولون : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }( العلق - 1 ) ؟ قال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل الذي قلت ، فقال جابر : لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت من خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال : فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال فنزلت : { يا أيها المدثر* قم فأنذر * وربك فكبر } " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن عقيل قال ابن شهاب : سمعت أبا سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله قال : " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فخشيت منه رعبا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى :{ يا أيها المدثر * قم فأنذر } إلى قوله : { فاهجر } قال أبو سلمة : والرجز الأوثان ، ثم حمي الوحي وتتابع " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ * وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ } .

يقول جلّ ثناؤه : يا أيّها المُدّثّرُ : يا أيها المتدثر بثيابه عند نومه .

وذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك ، وهو متدثر بقطيفة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم يا أيّها المُدّثّرُ قال : كان متدثرا في قطيفة .

وذُكر أن هذه الاَية أوّل شيء نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه قيل له : يا أيّها المُدّثّرُ ، كما :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي : «بَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْت صَوْتا مِنَ السّماءِ فَرَفَعْتُ رأسِي ، فإذَا المَلَك الّذِي جاءَنِي بِحِرَاءَ جالِسٌ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا ، وجِئْتُ أهْلي فَقُلْتُ : زَمّلُونِي زَمّلُوني ، فدَثّرُونِي » فأنزل الله : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبّرْ . . . إلى قوله : وَالرّجْزَ فاهْجُرْ قال : ثم تتابع الوحي .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : ثني يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة : أيّ القرآن أُنزل أوّل ، فقال : يا أيّها المُدّثّرُ فقلت : يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذي خَلَقَ ، فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله : أيّ القرآن أنزل أوّل ؟ فقال : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقلت يقولون : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ فقال : لا أخبرك إلا ما حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «جاورت في حِراء فلما قضيت جواري هبطت ، فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي ، فلم أر شيئا ، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ، فخشيت منه » هكذا قال عثمان بن عمرو ، إنما هو : «فجثثت منه ، ولقيت خديجة ، فقلت : دثروني ، فدثروني ، وصبوا عليّ ماءً ، فأنزل الله عليّ : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْدِرْ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن مبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة عن أوّل ما نزل من القرآن ، قال : نزلت يا أيّها المُدّثّرُ أوّل قال : قلت : إنهم يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ، فقال : سألت جابر بن عبد الله ، فقال : لا أحدّثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «جاوَرْتُ بِحِرَاءً فلمّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ، فَسَمِعْتُ صَوْتا ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِيِني فَلَمْ أرَ شَيْئا ، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَرَفَعْتُ رأسي فرأيْتُ شَيْئا ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ ، فَقُلْتُ : دَثّرُونِي وَصبّوا عَليّ ماء بارِدا ، فنزلت يا أيّها المُدّثّرُ .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة ، فحزن حزنا ، فجعل يعدو إلى شواهق رؤوس الجبال ليتردّي منها ، فكلما أوفي بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول : إنك نبيّ الله ، فيسكن جأشه ، وتسكن نفسه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث عن ذلك ، قال : «بَيْنَما أنا أمْشِي يَوْما إذْ رأيْتُ المَلَكَ الّذِي كان يأتِيني بِحرَاءَ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ ، فَجُثِثْتُ مِنْهُ رُعْبا ، فَرَجَعْتُ إلى خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : زَمّلُونِي ، فزمّلناه » : أي فدثرناه ، فأنزل الله يا أيّها المُدّثّرُ ، قُمْ فأنْذِرْ ، وَرَبّكَ فَكَبّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال الزهري : فكان أوّل شيء أنزل عليه : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ . . . حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يا أيها النائم في ثيابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ قال : يا أيها النائم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ يقول : المتدثر في ثيابه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : يا أيها المتدثر النبوّة وأثقالها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : وسُئل داود عن هذه الاَية : يا أيّها المُدّثّرُ فحدثنا عن عكرمة أنه قال : دثّرت هذا الأمر فقم به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع من أهل التأويل .

اختلف القراء في { المدثر } على نحو ما ذكرناه في { المزمل } [ المزمل : 1 ] ، وفي حرف أبيّ بن كعب { المدثر } ومعناه المتدثر بثيابه ، و «الدثار » ، ما يتغطى الإنسان به من الثياب ، واختلف الناس لم ناداه ب { المدثر } ، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني نزلت { يا أيها المدثر }{[11408]} ، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله . وروي أنه كان يدثر في قطيفة . وقال آخرون : معناه أيها النائم . وقال عكرمة معناه { يا أيها المدثر } للنبوة وأثقالها ، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو { يا أيها المدثر } الآيات . وقال الزهري والجمهور هو { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] وهذا هو الأصح . وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك{[11409]} .


[11408]:أخرجه البخاري عن وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: (يا أيها المدثر)، قلت: يقولون: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، قال: فدثروني وصبو علي ماء باردان فنزلت (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر)، هكذا ساقه البخاري من هذا الوجه، ورواه مسلم من طريق عقيل ، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء ،فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فُجِئْثُت منه – أي خفت وفزعت- حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني زملوني، فأنزل (يا أيها المدثر قم فأنذر ...إلى.... فاهجر). وهذا السياق هو المحفوظ ، ويقتضي أن الوحي قد نزل أولا بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، لقوله في الحديث (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، ثم حدثت فترة، ثم نزل الوحي وتتابع. وذكر الإمام السيوطي في "الدر المنثور" أن هذا الحديث قد أخرجه الطيالسي وعبد الرزاق، وأحمد، والبخاري، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، ورواية أحمد في مسنده (3/325) تشبه في لفظها رواية مسلم، وقد أخرج البخاري أيضا الحديث من طريق عقيل بلفظ مسلم.
[11409]:هذا الحديث طويل أخرجه البخاري في كتاب (بدء الوحي) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا فقارىء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قال : ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء؟ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...) إلى آخر الحديث، وقد أورد الإمام السيوطي هذا الحديث في "الدر المنثور" وذكر أن ممن أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذا الحديث واضح الدلالة على أن قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) هو أول ما نزل من القرآن كما ذكر ابن عطية رحمه الله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تسمى في كتب التفسير { سورة المدثر } وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس .

وأريد بالمدثر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي ندي بها ، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها .

وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها ، ونظيره ما تقدم في تسمية { سورة المزمل } ، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها .

وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني . وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } الخ نزل بالمدينة اه . ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي .

قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة { اقرأ باسم ربك } وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } ثم قالت : ثم فتر الوحي . فلم تذكر نزول وحي بعد آيات { اقرأ باسم ربك } .

وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض . وحاصل ما يجتمع من طرقه : قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت : دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا . قال النووي : صب الماء لتسكين الفزع . فأنزل الله { يا أيها المدثر } إلى { والرجز فأهجر } ثم حمي الوحي وتتابع اهـ .

ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة .

وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد : أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر رابعة .

وقال جابر بن زيد : نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة . ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع .

وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة .

والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم : فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا ، وقيل : أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر يوما ، والأصح أنها كانت أربعين يوما . فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته .

وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين .

أغراضها

جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة .

وإعلان وحدانية الله بالإلهية .

والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي .

ونبذ الأصنام .

والإكثار من الصدقات .

والأمر بالصبر .

وإنذار المشركين بهول البعث .

وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق .

ووصف أهوال جهنم .

والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها .

وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها .

وتأييسهم من التخلص من العذاب .

وتمثيل ضلالهم في الدنيا .

ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء .

نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة . وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال : دثروني دثروني ، أو قال : زملوني ، أو قال : زملوني فدثروني ، على اختلاف الروايات ، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت : { يا أيها المدثر } .

وقد مضى عند قوله تعالى : { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف .

و{ المدثر } : اسم فاعل من تدثّر ، إذا لبس الدِّثَار ، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى .

والدِّثار : بكسر الدال : الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً . وفي الحديث " الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار " .

فالوصف ب { المدثر } حقيقة ، وقيل هو مجاز على معنى : المدثر بالنبوءة ، كما يقال : ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى : { يا أيها المزمل ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها .