لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية وقيل غير آية من آخرها وهي ست وخمسون آية ومائتان وخمس وخمسون كلمة وألف حرف وعشرة أحرف .

قوله عز وجل : { يا أيها المدثر } ( ق ) عن يحيى بن كثير قال «سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أبو سلمة سألت جابراً عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فرأيت شيئاً .

فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني » وصبوا علي ماء بارداً فنزلت { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر } وذلك قبل أن تفرض الصلاة وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي - وذكر نحوه - فإذا هو قاعد على عرش في الهواء - يعني جبريل - فأخذتني رجفة شديدة » ( ق ) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري «عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه : فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله عز وجل { يا أيها المدثر } إلى { والرجز فاهجر } وفي رواية «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي » وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع .

فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن ، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضاً في بدء الوحي ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ، حتى بلغ - { ما لم يعلم } - فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده » الحديث .

قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ، كما صرح به في حديث عائشة ، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به ، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر ، ويدل عليه أيضاً قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ويدل عليه أيضاً قوله «فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر » وأيضاً قوله «ثم حمي الوحي بعد وتتابع » فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين ، والله أعلم قوله «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض » يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي ، أي عن احتباسه وعدم تتابعه ، وتواليه في النزول قوله «فجئثت منه » روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم ، ومعناه فرعبت منه وفزعت . وقوله «وحمي الوحي بعد وتتابع » أي كثر نزوله ، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما ، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم .

قوله عز وجل : يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها ، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سماه مدثراً لقوله صلى الله عليه وسلم دثروني ، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى ، فجعل النّبوة كالدثار واللباس ، مجازاً .