تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المدثر [ وهي مكية ]{[1]}

الآية 1 : قوله تعالى : { يا أيها المدّثر } قيل : إن الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على التدثر أنه كان في بعض طريق مكة إذ سمع صوتا من السماء والأرض ، فنظر عن يمينه وعن يساره ، وأمامه وخلفه ، فلم ير شيئا ، ففرق منه ، فأتى بيته ، وقال : زمّلوني ، فدثّروه .

فإن صحّ ما قالوا ، وإلا لم يسعهم أن يشهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الذي حمله على التدثر ما ذكروا من الفرق ولأن التدثر ليس مما يسكن به الروع الذي يحل بصاحبه من الصياح ، وذكروا أن أول ما نزل من الوحي قوله : { يا أيها المدثر } .

فإن صحّ ما ذكروا فأول ما أوحي إليه ، هو الصياح الذي سمعه إذ كان ذلك متقدما على قوله : { يا أيها المدثر } { قم فأنذر } .

وقيل : إن كفار مكة قذفوه بالسحر ، وأجمعوا رأيهم على أن ينسبوه إليه ، وفشا هذا القول فيهم له ، فأحزنه ذلك ، فدخل بيته ، وتدثر بثيابه ، فأمره الله تعالى عز وجل أن يقوم ، فينذرهم بقوله : { يا أيها المدثر }{ قم فأنذر } .

وعلى هذا التأويل يكون نازلا قبل نزول هذه السورة حتى سموه ساحرا لما رأوا منه من الآيات ، والله أعلم .

وذكر أن موسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، قال : أتاني ربي من طور سيناء ، سيأتي من طور ساعورا ، وسيطلع من جبل فاران ، فإن صحّ هذا الخبر ، فمعنى قوله : أتاني ربي : أوحى إليّ ، وقوله : وسيأتي من طور ساعورا ، هو الوحي إلى عيسى عليه السلام وقوله : وسيطلع من جبل فاران ، وهو القرآن الذي أنزل على نبينا محمد عليه السلام .

وفي هذا الخبر دلالة أن الأخبار التي فيها ذكر نزول الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وهو على نزول أمره إلى ملائكته أن قولوا : هل من داع ، فيجاب ؟ هل من مستغفر ، فيغفر له ؟ .

فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي كان بجبل فاران ، وهو جبل[ من جبال ]{[22556]} مكة ، أو كان ذلك الجبل منسوبا إلى ذلك المكان .

ثم في قوله/ 610 – أ/ عز وجل : { يا أيها المدثر } تثبت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآية رسالته ؛ وذلك أن تعريف المرء بما عليه من الثياب ونسبته إليها{[22557]} لا يخرجه مخرج التعظيم والتبجيل ، وإنما التبجيل في ما يدعي باسمه أو بكنيته .

فلو كان الأمر على ما زعمت الكفرة أن هذا القرآن ليس من عند الله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي اخترعه من ذات نفسه لكان لا يعرف نفسه بثيابه ، بل يعرفها بما فيه تبجيلها وتعظيمها ، فإذا لم يفعل ثبت أنه كان رسولا حقا ؛ بلّغ الرسالة على ما أوحي إليه ، وأدى كما أمر على ما ذكرنا في الآيات التي خرجت مخرج المعاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيها تثبيت رسالته نحو قوله : { عبس وتولى } { أن جاءه الأعمى }[ عبس : 1و2 ] وغير ذلك من الآيات .

وجائز أن تكون نسبته إلى ثيابه ليعلم الخلق أن لا بأس للمرء أن يعرف أخاه بثيابه .

وجائز أن تكون نسبته إلى الثوب الذي يتدثر به تخرج مخرج التعظيم لذلك الثوب لموافقته حال نزول الوحي ، وهذا لما ذكرنا أن إضافة الأشياء إلى الله تعالى نحو الجزئيات تخرج مخرج تعظيم تلك الأشياء كقوله تعالى : { ناقة الله }[ الأعراف : 73 ]{ ومساجد الله }[ البقرة : 114 ]{ رب العرش العظيم }[ التوبة : 129 ] على تعظيم العرش وتعظيم أمر الناقة وتشريف المساجد ، وإضافة الأشياء إليه نحو الكليات تخرج مخرج[ تعظيم ]{[22558]} الله تعالى كقوله تعالى : { رب العالمين }[ الفاتحة : 2و . . . ][ قوله ]{[22559]} : { رب السماوات والأرض وما بينهما }[ مريم : 65 ] .

ثم أذن للمرء أن يسبح في ركوعه ، فيقول : سبحان ربي العظيم ، فيخص نفسه بقوله : ربي ، والحق في مثله أن يقول : سبحان ربنا لئلا يخرج ذلك مخرج تعظيم النفس كقوله تعالى : { رب العالمين }[ الفاتحة : 2و . . . ] وقوله{[22560]} : { رب السماوات والأرض وما بينهما }[ مريم : 65 ] إذ الإضافة من الجانبين على السواء في ما ذكرنا ، لكن ذلك[ الذكر ]{[22561]} إذا وافق الحالة التي فيها تعظيم الرب ووصفه بالعلو ، وهو الركوع والسجود ، أذن له بأن يأتي بهذا الذكر ، وإن خرج ذلك مخرج تعظيم النفس ، فكذلك الثوب الذي تدثر به النبي صلى الله عليه وسلم إذ وافق حال الوحي عظم شأنه من ذلك الوجه ، فنسب إلى ذلك الثوب .

ثم المرء إنما يتدثر عندما يريد أن ينام أو عند طلب الراحة ، وليست تلك الحالة حالة ، يستحب [ المرء ]{[22562]} مصاحبة الكبراء العظام في مثل تلك الحال [ فضلا عن أن يصحب الملك في مثل تلك الحال ]{[22563]} فيكون في هذا دلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلع على الأوقات التي كان يأتي فيها الوحي .

وإذ لم يعلم كان الأمر عليه أصعب وأشد منه إذا بين له ، لأنه إذ لم يبين له ألزمه أن يصون نفسه في الحالات كلها عن أشياء يستحيى مع مثلها الخلوة بالملائكة . ولهذا لم يبين لأحد منتهى عمره ليكون أبدا مستعدا للموت فرقا أن يحل به ساعة بعد ساعة ، ويكون أبدا على خوف ووجل من ذلك ، والله أعلم .


[1]:- في ط ع: سمح.
[22556]:من م، ساقطة من الأصل.
[22557]:في الأصل و م: إليه.
[22558]:من م، ساقطة من الأصل.
[22559]:ساقطة من الأصل و م.
[22560]:في الأصل و م:و.
[22561]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م.
[22562]:من م، ساقطة من الأصل.
[22563]:من م، ساقطة من الأصل.