محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

74- سورة المدثر

مكية وآيها ست وخمسون آية .

قال ابن كثير ثبت في ( صحيح البخاري ) عن جابر أنه كان يقول " أول شيء نزل من القرآن { يا أيها المدثر } وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى { اقرأ باسم ربك الذي خلق } كما سيأتي بيان ذلك هنالك إن شاء الله تعالى .

روى البخاري {[1]} عن يحيى بن كثير قال " سألت أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال { يا أيها المدثر } قلت يقولون { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل ما قلت لي فقال جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظر خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا قال فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت { يا أيها المدثر قم فأنذر } " .

وروى الشيخان أيضا{[2]} عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر . . . } الآيات " .

قال ابن كثير وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله " فإذا الملك الذي جاءني بحراء " وهو جبريل حين أتاه بقوله { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد . هذا وجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة .

وروى الطبراني عن ابن عباس " أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا منه قال ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم ساحر ، وقال بعضهم ليس بساحر وقال بعضهم كاهن وقال بعضهم ليس بكاهن وقال بعضهم شاعر وقال بعضهم ليس بشاعر ، وقال بعضهم سحر يؤثر فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر فأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر . . . } الآيات " .

{ يا أيها المدثر } أي المتلفف بثيابه لنوم أو استدفاء من الدثار وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار والشعار الثوب الذي يلي الجسد وأصله ( المتدثر ) فأدغم خوطب بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزول الوحي أو لقوله دثروني كما تقدم ، وقيل معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم ويقال تلبس فلان بأمر كذا فجعل النبوة كالدثار واللباس مجازا .

قال الشهاب إما أن يراد المتحلي بها والمتزين كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة وكذا يسمى ( خلة ) والتشبيه بالدثار في ظهورها أو في الإحاطة والأول أتم .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[2]:(24 النور 2).