التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تسمى في كتب التفسير { سورة المدثر } وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس .

وأريد بالمدثر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي ندي بها ، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها .

وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها ، ونظيره ما تقدم في تسمية { سورة المزمل } ، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها .

وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني . وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } الخ نزل بالمدينة اه . ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي .

قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة { اقرأ باسم ربك } وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } ثم قالت : ثم فتر الوحي . فلم تذكر نزول وحي بعد آيات { اقرأ باسم ربك } .

وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض . وحاصل ما يجتمع من طرقه : قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت : دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا . قال النووي : صب الماء لتسكين الفزع . فأنزل الله { يا أيها المدثر } إلى { والرجز فأهجر } ثم حمي الوحي وتتابع اهـ .

ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة .

وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد : أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر رابعة .

وقال جابر بن زيد : نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة . ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع .

وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة .

والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم : فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا ، وقيل : أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر يوما ، والأصح أنها كانت أربعين يوما . فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته .

وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين .

أغراضها

جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة .

وإعلان وحدانية الله بالإلهية .

والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي .

ونبذ الأصنام .

والإكثار من الصدقات .

والأمر بالصبر .

وإنذار المشركين بهول البعث .

وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق .

ووصف أهوال جهنم .

والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها .

وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها .

وتأييسهم من التخلص من العذاب .

وتمثيل ضلالهم في الدنيا .

ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء .

نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة . وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال : دثروني دثروني ، أو قال : زملوني ، أو قال : زملوني فدثروني ، على اختلاف الروايات ، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت : { يا أيها المدثر } .

وقد مضى عند قوله تعالى : { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف .

و{ المدثر } : اسم فاعل من تدثّر ، إذا لبس الدِّثَار ، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى .

والدِّثار : بكسر الدال : الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً . وفي الحديث " الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار " .

فالوصف ب { المدثر } حقيقة ، وقيل هو مجاز على معنى : المدثر بالنبوءة ، كما يقال : ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى : { يا أيها المزمل ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها .