السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي خمس أو ست وخمسون آية ، ومائتان وخمس وخمسون كلمة ، وألف وعشرة أحرف .

{ بسم الله } الملك الواحد القهار { الرحمن } الذي عمّ برحمته الأبرار والفجار { الرحيم } الذي خص أصفياءه بما يوصلهم إلى دار القرار .

ولما ختمت المزمّل بالبشارة لأرباب البصارة بعد ما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيء للقيام بأعباء الدعوة افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة فقال تعالى :

{ يا أيها المدثر } روي عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن قال : { يا أيها المدثر } . قلت يقولون { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] قال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ذلك الذي قلت ، فقال لي جابر : لا أحدثك إلا مثل ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت عن خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني وصبوا عليّ ماءً بارداً » ، قال : فنزل { يا أيها المدثر } الآية ، وذلك قبل أن تفرض الصلاة ، وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه » ، وفيه : فإذا قاعد على عرش في الهواء يعني جبريل عليه السلام فأخذتني رجفة شديدة » وعن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي ، فقال لي في حديثه : «فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاء لي بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فَجُئِثْتُ منه رعباً ، فقلت : زملوني زملوني فدثروني ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها المدثر } إلى قوله : { فاهجر } وفي رواية : «فَجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي » وذكره ثم حمي الوحي وتتابع .

فإن قيل : إنّ هذا الحديث دال على أنّ سورة المدثر أوّل ما نزل ، ويعارضه حديث عائشة المخرج في الصحيحين في بدء الوحي وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه : «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] حتى بلغ { ما لم يعلم } [ العلق : 5 ] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده » الحديث ؟ أجيب : بأنّ الذي عليه العلماء أنّ أوّل ما نزل من القرآن على الإطلاق { اقرأ باسم ربك الذي خلق } كما صرّح به في حديث عائشة . ومن قال : إنّ سورة المدثر أوّل ما نزل من القرآن فضعيف ، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرّح به في رواية الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر ، ويدل عليه ما في الحديث وهو يحدّث عن فترة الوحي إلى أن قال : «وأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر } » ، ويدل عليه قوله أيضاً : «فإذا الملك الذي جاءني بحراء » .

وحاصله : أنّ أوّل ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة { اقرأ باسم ربك } وأنّ أوّل ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر ، وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين .

قوله : «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض » يريد به السرير الذي يجلس عليه . وقوله : «يحدّث عن فترة الوحي » أي : عن احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول وقوله : «فَجُئِثْتُ منه » روي بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير ، وروي بثاءين مثلثتين بعد الجيم ومعناها فرعبت منه وفزعت ، وقوله : «حمي الوحي وتتابع » أي : كثر نزوله وازداد بعد فترته من قولهم : حميت الشمس والنار إذا ازداد حرّها . وقوله : «وصبوا عليّ ماءً بارداً » فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصبّ عليه الماء ليسكن فزعه .

وأصل المدّثر المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها ، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمي مدّثراً لوجوه :

أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم : «دثروني » .