قوله تعالى : { فلا تهنوا } لا تضعفوا { وتدعوا إلى السلم } أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء ، منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح ، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا ، { وأنتم الأعلون } الغالبون ، قال الكلبي : آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، { والله معكم } بالعون والنصرة ، { ولن يتركم أعمالكم } أي ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره يتره وتراً وترةً : إذا نقص حقه ، قال ابن عباس ، وقتادة ومقاتل والضحاك : لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } .
يقول تعالى ذكره : فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين وتجبُنوا عن قتالهم . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَلا تَهِنُوا قال : لا تضعفوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا تَهِنُوا لا تضعف أنت .
وقوله : وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ يقول : لا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة ، وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم وَاللّهُ مَعَكُمْ يقول : والله معكم بالنصر لكم عليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : وأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ فقال بعضهم : معناه : وأنتم أولى بالله منهم . وقال بعضهم : مثل الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك ، وقال معنى قوله : وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ أنتم أولى بالله منهم .
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث ، عن قتادة ، في قوله : فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ قال : أي لا تكونوا أولى الطائفتين تصرع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلَمِ قال : لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت لصاحبتها ، ودعتها إلى الموادعة ، وأنتم أولى بالله منهم والله معكم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلَمِ قال : لا تكونوا أولى الطائفتين صرعت إلى صاحبتها وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ قال : يقول : وأنتم أولى بالله منهم ذكر من قال معنى قوله : وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ : أنتم الغالبون الأعزّ منهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ قال : الغالبون مثل يوم أُحد ، تكون عليهم الدائرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلَمِ وأنُتمُ الأَعْلَوْنَ قال : هذا منسوخ ، قال : نسخه القتال والجهاد ، يقول : لا تضعف أنت وتدعوهم أنت إلى السلم وأنت الأعلى ، قال : وهذا حين كانت العهود والهدنة فيما بينه وبين المشركين قبل أن يكون القتال ، يقول : لا تهن فتضعف ، فيرى أنك تدعوه إلى السلم وأنت فوقه ، وأعزّ منه وأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ أنتم أعزّ منهم ، ثم جاء القتال بعد فنسخ هذا أجمع ، فأمره بجهادهم والغلظة عليهم . وقد قيل : عنى بقوله : وأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وأنتم الغالبون آخر الأمر ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وقهروكم في بعض الحروب .
وقوله : فَلا تَهِنُوا جزم بالنهي ، وفي قوله وَتَدْعُوا وجهان : أحدهما الجزم على العطف على تهنوا ، فيكون معنى الكلام : فلا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم ، والاَخر النصب على الصرف .
وقوله : وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ يقول : ولن يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها ، من قولهم : وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً ، فأخذت له مالاً غصبا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله يقول : وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ يقول : لن يظلمكم أجور أعمالكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ قال : لن ينقصكم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ : أي لن يظلمكم أعمالكم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ قال : لن يظلمكم ، أعمالكم ذلك يتركم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلَنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ قال : لن يظلمكم أعمالكم .
{ فلا تهنوا } فلا تضعفوا . { وتدعوا إلى السلم } ولا تدعوا إلى الصلح خورا وتذللا . ويجوز نصبه بإضمار إن وقرئ " ولا تدعوا " من ادعى بمعنى دعا ، وقرئ أبو بكر و حمزة بكسر السين . { وأنتم الأعلون } الأغلبون . { والله معكم } ناصركم . { ولن يتركم أعمالكم } ولن يضيع أعمالكم ، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقا به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر ، شبه به تعطيل ثواب العمل وإفراده منه .
وقوله تعالى : { فلا تهنوا } معناه : فلا تضعفوا ، من وهن الرجل إذا ضعف .
وقرأ جمهور الناس : «وتدعوا » وقرأ أبو عبد الرحمن : «وتدّعوا » بشد الدال{[10386]} . وقرأ جمهور القراء : «إلى السَلم » بفتح السين . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم : «إلى السِلم » بكسر السين . وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة . وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام ، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه . وقال قتادة معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ملتئم مع قوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }{[10387]} [ الأنفال : 61 ] .
وقوله : { وأنتم الأعلون } يحتمل موضعين أحدهما : أن يكون في موضع الحال ، المعنى : لا تهنوا وأنتم في هذه الحال . والمعنى الثاني : أن يكون إخباراً بنصره ومعونته . و «يتر » ، معناه ينقص ويذهب ، ومنه قوله عليه السلام : «من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله »{[10388]} أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر ، والمعنى : لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم . واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الذحل{[10389]} ، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد{[10390]} ، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم ، والأول أصح ، وفسر ابن عباس وأصحابه { يتركم } بيظلمكم .