معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

قوله تعالى : { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } . . وكانت قصة التابوت أن الله تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه صورة الأنبياء عليهم السلام ، وكان من عود الشمشاد نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين ، فكان عند آدم إلى أن مات ثم بعد ذلك عند شيث ، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم ، ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر ولده ، ثم عند يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى ، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ، فكان عنده إلى أن مات موسى عليه السلام ، ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل إلى وقت أشمويل وكان فيه ذكر الله تعالى .

قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } . اختلفوا في السكينة ما هي ؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ريح حجوج هفافة ، لها رأسان ووجه كوجه الإنسان ، عن مجاهد : شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة ، وذنب كذنب الهرة وله جناحان ، وقيل : له عينان لهما شعاع ، وجناحان من زمرد وزبرجد فكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا بالنصرة ، وكانوا إذا خرجوا وضعوا التابوت قدامهم فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هي طشت من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، وعن وهب بن منبه قال : هي روح من الله ، يتكلم إذا اختلفوا في شيء يخبرهم ببيان ما يريدون ، وقال عطاء بن أبي رباح : هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، وقال قتادة والكلبي : السكينة فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم ، ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا .

قوله تعالى : { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } . يعني موسى وهارون أنفسهما كان فيه لوحان من التوراة ورضاض الألواح التي تكسرت ، وكان فيه عصا موسى ، ونعلاه وعمامة هارون وعصاه وقفيز من المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل ، فكان التابوت عند بني إسرائيل ، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم ، فيستفتحون به على عدوهم ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت . وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى العالم الذي ربى أشمويل عليه السلام ابنان شابان ، وكان عيلى حبرهم وصاحب قربانهم ، فأحدث ابناه في القربان شيئاً لم يكن فيه ، وذلك أنه كان لعيلى منوط القربان الذي كانوا ينوطونه به كلابين ، فما أخرجا كان للكاهن الذي ينوطه ، فجعل ابناه كلاليب وكان النساء يصلين في بيت المقدس ، فيتشبثان بهن ، فأوحى الله تعالى إلى أشمويل عليه السلام انطلق إلى عيلى فقل له : منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي شيئا ، وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ، ولأهلكنك وإياهم ، فأخبر أشمويل عيلى بذلك ففزع فزعاً شديداً ، فسار إليهم عدو ممن حولهم ، فأمر ابنيه أن يخرجا فيقاتلا ذلك العدو ، فخرجا وأخرجا معهما التابوت فلما تهيئوا للقتال جعل عيلى يتوقع الخبر ماذا صنعوا ؟ فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيه فقال : إن الناس قد انهزموا وأن ابنيك قد قتلا ، قال : فما فعل التابوت ؟ قال : ذهب به العدو ، فشهق ووقع على قفاه من كرسيه ومات ، فخرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكاً فسألوه البينة ، فقال لهم نبيهم : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت . وكانت قصة التابوت ، أن الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود ، وجعلوه في بيت صنم لهم ، ووضعوه تحت الصنم الأعظم ، فأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصبحوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه ، وأصبح ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة ، ووضعوه في ناحية من مدينتهم ، فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم ، فقال بعضهم لبعض : أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء ؟ فأخرجوه إلى قرية كذا ، فبعث الله على أهل تلك القرية فأراً فكانت الفأرة تبيت مع الرجل ، فيصبح ميتاً قد أكلت ما في جوفه فأخرجوه إلى الصحراء فدفنوه في مخرأة لهم ، فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا ، فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم ، فأخرجوه عنكم ، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ثم علقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ، ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل ، فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ، ورجعا إلى أرضهما فلم يرع بني إسرائيل إلا بالتابوت فكبروا وحمدوا الله فذلك قوله تعالى : { تحمله الملائكة } . أي تسوقه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت ، وقال الحسن : كان التابوت مع الملائكة في السماء ، فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ، ووضعته بينهم ، وقال قتادة : بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون ، فبقي هناك فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت فأقروا بملكه .

قوله تعالى : { إن في ذلك لآية } . لعبرة .

قوله تعالى : { لكم إن كنتم مؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهنما يخرجان قبل يوم القيامة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

ثم حكى القرآن أن نبيهم لم يكتف بهذه الدلائل الدالة على صلاحية طالوت للقيادة ، وإنما ساق لهم بعد ذلك من العلامات التي تشهد بحقيته بهذا المنصب ما يثبت قلوبهم ، ويزيل شكهم ويشرح نفوسهم فقال - تعالى - :

{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن . . . }

التابوت : " يوزن فعلوت - من التوب وهو الرجوع ، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كجبروت ، والمراد به صندوق التوراة وكانوا إذا حاربوا حملة جماعة منهم ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم . وكان عهدهم به قد طال فذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملا على الانقياد لطالوت "

والسكينة : من السكون وهو ثبوت الشيء بعد التحرك : أو من السكن - بالتحريك - وهو كل شيء سكنت إليه النفس وهدأت .

والمعنى : وقال لهم نبيهم ليقنعهم بأن طالوت جدير بالملك { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } أي علامة ملكه وأنه من الله - تعالى - { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } أي أن يرد عليكم التابوت الذي سلب منكم { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي في إتيانه سكون لنفوسكم وطمأنينة لها أو مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } من آثار تعتزون بها ، وترون فيها صلة بين ماضيكم وحاضركم وقوله { تَحْمِلُهُ الملائكة } حال من التابوت .

قال صاحب الكشاف : قوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } هي رضاض الأولواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة . وكان رفعه الله - تعالى - بعد موسى - عليه السلام - فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، فكان ذلك آية لاصطفائه لطالوت . فإن قلت : من هم ( آل موسى وآل هارون ) . قلت : الأنبياء من بني يعقوب بعدهما ، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما .

وقال ابن كثير : قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إن في ذلك الذي أتاكم به طالوت الآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالملك والقيادة إن كنتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذي جاء به أنبياؤه .

وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد حكى لنا أن هؤلاء القوم من بني إسرائيل قد جاءهم نبيهم بأنصع الحجج ، وأوضح الأدلة ، وأثبت البراهين التي تؤيده فيما يدعوهم إليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

أراد نبيئهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكاً ، فجعل لهم آية تدل على ذلك وهي أن يأتيهم التابوت ، أي تابوت العهد ، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم ، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى إرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال ، وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل ، حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعاً في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه ، وانكسار يديه ورأسه ، وإصابتهم بالبواسير في أشدود وتخومها ، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع ، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة ، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوباً بهدية : صورة خمس بواسير من ذهب ، وصورة خمس فيران من ذهب ، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة : أشدود ، وغزة ، واشقلون ، وجت ، وعفرون . ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية ، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل ، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس ، هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاوول ، وصريح القرآن يخالف ذلك ، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر ، وهو كثير في كتابهم . والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلاّ لقصد أخذ الثأر من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم ، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها ، ظناً منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة آنفاً ، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول ، وابتداء ظهور الانتصار به .

والتابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول ، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية ، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب مثل ناقوس وناموس ، واستظهر الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان : مثل سلس وقلق ، ومن أجل هذا أثبته الجوهري في مادة توب لا في تبت .

والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل : وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب ، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفاً وعرضه ذراعاً ونصفاً وارتفاعه ذراعاً ونصفاً ، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج ، وصنع له إكليلاً من ذهب ، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع ، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت ، وجعل غطاءه من ذهب ، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء ، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله :

{ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح } [ الأعراف : 154 ] .

والسكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء ، وفي حديث السعي إلى الصلاة « عليكم بالسكينة » وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب ، وفيه أيضاً كتب موسى عليه السلام ، وهي مما تسكن لرؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها ، فالظرفية على الأول مجازية ، وعلى الثاني حقيقية ، وورد في حديث أسيد بن حضير إطلاق السكينة على شيء شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن ، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة .

والبقية في الأصل ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه ، وقد بينت هنا بأنها مما ترك آل موسى وآل هارون ، وهي بقايا من آثار الألواح ، ومن الثياب التي ألبسها موسى أخاه هارون ، حين جعله الكاهن لبني إسرائيل ، والحافظ لأمور الدين ، وشعائر العبادة قيل : ومن ذلك عصا موسى . ويجوز أن تكون البقية مجازاً عن النفيس من الأشياء ؛ لأن الناس إنما يحافظون ، على النفائس فتبقى كما قال النابغة :

بَقِيَّةٌ قدْر من قُدور تُوُورِثَتْ *** لآل الجُلاح كابرا بعد كابر

وقد فسر بهذا المعنى قول رويشد الطائي :

إنْ تُذنبوا ثم تأتيني بقيتكم *** فما عليَّ بذنب منكمُ فَوْت

أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم ، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث .

والمراد من آل موسى وآل هارون أهل بيتهما من أبناء هارون ؛ فإنهم عصبة موسى ؛ لأن موسى لم يترك أولاداً ، أو ما تركه آلهما هو آثارهما ، فيئول إلى معنى ما ترك موسى وهارون وآلهما ، أو أراد مما ترك موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله { ادخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] .

وهارون هو أخو موسى عليهما السلام وهو هارون بن عمران من سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من موسى ، ولما كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه هارون فيكون كالوزير له ، وأوحى إلى هارون أيضاً ، وكان موسى هو الرسول الأعظم ، وكان معظم وحي الله إلى هارون على لسان موسى ، وقد جعل الله هارون أول كاهن لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة ، وجعل الكهانة في نسله ، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة ، منها تحريم الخمر على الكاهن ، ومات هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح ، في جبل هور على تخوم أرض أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من مصر .

وقوله : { تحمله الملائكة } حال من ( التابوت ) ، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى : { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } [ التوبة : 92 ] لأن الراحلة تحمل راكبها ؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر : « وكانت الحمر حمولتهم » وقال النابغة :

* يُخَال به راعي الحَمُولة طَائرا *

فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل ، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة ، هذا هو الملاقى لما في كتب بني إسرائيل .

وقوله : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم ، بدون قتال ، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه السلام ، وفي مجيئه من غير سائق ولا إلف سابق .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ءَايَةَ مُلۡكِهِۦٓ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (248)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فلما أنكروا أن يكون طالوت عليهم ملكا، {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه} أنه من الله، {أن يأتيكم التابوت} الذي أخذ منكم، {فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون}، يعني بالبقية رضراضا من الألواح... وعصا موسى عليه السلام، وعمامته، وكان التابوت يكون مع الأنبياء إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، فلما تفرقت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء، سلط الله عز وجل عليهم عدوهم، فقتلوهم وغلبوهم على التابوت، فدفنوه... وبعث الله عز وجل الملائكة... {تحمله}... يعني تسوقه...

{إن في ذلك}: في رد التابوت، {لآية لكم إن كنتم مؤمنين}: مصدقين بأن طالوت ملكه من الله عز وجل...

فلما رأوا التابوت أيقنوا بأن ملك طالوت من الله عز وجل، فسمعوا له وأطاعوا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا، إذ أخبرهم نبيهم بذلك وعرّفهم فضيلته التي فضله الله بها ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به.

فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا:"وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"، فقالوا له: ائت بآية على ذلك إن كنت من الصادقين قال لهم نبيهم: "إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيَكُمُ التّابُوتُ". هذه القصة وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدأوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله، بناء عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوّته ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله من الجهاد في سبيل الله بالتخلف عنه حين استنهضوا الحرب من استنهضوا لحربه، وفتح الله على القليل من الفئة مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه، فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه، مع علمهم بصدقه ومعرفتهم بحقيقة نبوّته، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم، مع علمهم بصدقه ومعرفتهم بحقيقة نبوّته، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوّهم، ويجاهدون معه في سبيل ربهم ابتداء منهم بذلك نبيهم، وبعد مراجعة نبيهم إياهم في ذلك وحضّ لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدوّ ومناهضته أهل الكفر بالله وبه على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت، إذ زحف لحرب عدوّ الله جالوت، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حرّ الجهاد، والقتال في سبيل الله، وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب، وترك تهيب قتالهم إن قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم، بقوله: "قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ وَاللّه مَعَ الصّابِرِينَ"، وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشرّ.

"قاَل لَهُمْ نَبيّهُمْ": للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم: "ابْعَثْ لَنا مَلِكا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ". "إنّ آيَةَ مُلْكِهِ": إن علامة ملك طالوت التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا، وإن كان من غير سبط المملكة، "أنْ يَأتِيكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ "وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوّا لهم قدموه أمامهم وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدوّ ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم، حتى منعوا أمر الله وكثر اختلافهم على أنبيائهم، فسلبهم الله إياه مرّة بعد مرّة يرده إليهم في كل ذلك، حتى سلبهم آخر مرة فلم يردّه عليهم ولن يردّ إليهم آخر الأبد.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم على قوله: "إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا "وهل كانت بنو إسرائيل سُلبوه قبل ذلك فردّه الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟ فقال بعضهم: كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم ردّه الله عليهم آية لملك طالوت.

"فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ": في التابوت سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ.

قال بعضهم: السكينة: ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه. وقال آخرون: السكينة: الرحمة.

وقال آخرون: السكينة: هي الوقار.

وأولى هذه الأقوال بالحقّ في معنى السكينة: الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن السكينة في كلام العرب الفعيلة من قول القائل: سكن فلان إلى كذا وكذا: إذا اطمأنّ إليه وهدأت عنده نفسه، فهو يسكن سكونا وسكينة.

"وَبَقِيّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ": وَبَقِيّةٌ: الشيء الباقي من قول القائل: قد بقي من هذا الأمر بقية. وقوله: "مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ" يعني به: من تركة آل موسى وآل هارون.

واختلف أهل التأويل في البقية التي كانت بقيت من تركتهم؛ فقال بعضهم: كانت تلك البقية عصا موسى، ورضاض الألواح. وقال آخرون: بل تلك البقية: عصا موسى، وعصا هارون، وشيء من الألواح. وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان.

وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها. وقال آخرون: بل كان ذلك رضاض الألواح وما تكسر منها. وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته: "إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا" أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون، وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح والتوراة، أو بعضها والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله، وجائز أن يكون بعض ذلك. وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج، ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم، ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول.

"تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ".

اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت؛ فقال بعضهم: تحمله بين السماء والأرض حتى تضعه بين أظهرهم. وقال آخرون : تسوق الملائكة الدوابّ التي تحمله.

وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: حملت التابوت الملائكة حتى وضعته في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى ذكره قال: "تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ" ولم يقل: تأتي به الملائكة وما جرّته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته، لأن الحمل المعروف هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال في حمله بمعنى معونته الحامل، أو بأن حمله كان عن سببه، فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه في تعارف الناس إياه بينهم وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر ما وجد إلى ذلك سبيل.

"إنّ في ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إنْ كنْتُمْ مُؤْمِنِينَ": يعني تعالى ذكره بذلك أن نبيه قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، حاملته الملائكة، لآيَةً لَكُمْ: يعني لعلامة لكم ودلالة أيها الناس على صدقي فيما أخبرتكم أن الله بعث لكم طالوت ملكا إن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم واتهمتموني في خبري إياكم بذلك، "إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ": إن كنتم مصدقيّ عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.

وإنما قلنا ذلك معناه لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم، وردّهم عليه قوله: "إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا" بقولهم: "أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ" وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإن كان ذلك منهم كفرا، فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله، ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية على صدق خبره إياهم ليقرّوا بصدقه، فقال لهم في مجيء التابوت على ما وصفه لهم آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقيّ بما قلت لكم وأخبرتكم به.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إن الله سبحانه إذا أظهر نوراً أمدَّه بتأييد من قِبَلهِ، فلما ملك طالوت عليهم أزال الإشكال عن صفته بما أظهر من آياته الدالة على صدق قول نبيِّهم في اختياره، فردَّ عليهم التابوت الذي فيه السكينة، فاتضحت لهم آية ملكه، وأن نبيهم عليه السلام صَدَقَهم فيما أخبرهم.

ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي رَضوا عن الألواح، وعصا موسى عليه السلام، وآثار صاحب نبوتهم. وجعل سكينة هذه الأمة في قلوبهم، فقال:"هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين" ثم إن التابوت كان تتداوله أيدي الأعداء وغيرهم؛ فَمرَّةً كان يُدْفَن ومرة كان يُغلب عليه فيُحمَل، ومرة يُرَد ومرة ومرة... وأما قلوب المؤمنين فَحَالَ بين أربابها وبينها، ولم يستودعها ملكاً ولا نبياً، ولا سماء ولا هواء، ولا مكاناً ولا شخصاً، وقال صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن "يعني في قبضة الحق سبحانه، وتحت تغليبه وتصريفه، والمراد منه "القدرة"، وشتَّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تَسَلُّط، وأمةٍ سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه لسلطان.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

والسكينة: هي الطمأنينة، ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت، جعل التابوت ظرفاً لها، وهذا من المجاز الحسن...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان أغلبهم واقفاً مع المشاهدات، غير ثابت القدم في الإيمان بالغيب قال: {وقال لهم نبيهم} مثبتاً لأمر طالوت {إن آية} أي علامة {ملكه} قال الحرالي: وقل ما احتاج أحد في إيمانه إلى آية خارقة إلا كان إيمانه إن آمن غلبة يخرج عنه بأيسر فتنة، ومن كان إيمانه باستبصار ثبت عليه ولم يحتج إلى آية، فإن كانت الآية كانت له نعمة ولم تكن عليه فتنة {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذب بها الأولون... وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً} [الإسراء: 59] فإن الآيات طليعة المؤاخذة والاقتناع بالاعتبار طليعة القبول والثبات...

{أن يأتيكم} أي من غير آت به ترونه {التابوت} قال الحرالي: و يعز قدره... وهو والله سبحانه وتعالى أعلم الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات التي نسبتها من التوراة نسبة فاتحة الكتاب من القرآن وهو يسمى تابوت الشهادة...

وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم موظفون لحمله ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم وكأن عهدهم به كأن قد طال فذكّرهم بمأثره ترغيباً فيه وحملاً على الانقياد لطالوت فقال: {فيه سكينة} أي شيء يوجب السكون والثبات في مواطن الخوف. قال الحرالي: معناه ثبات في القلوب يكون له في عالم الملكوت صورة بحسب حال المثبت،

وزاده مدحاً بقوله: {من ربّكم} أي الذي طال إحسانه إليكم وتربيته باللطف لكم. قال الحرالي: كما كانت الصبا تهب لهذه الأمة بالنصر... فكانت سكينتها كلية آفاقها وتابوتها كلية سمائها حتى لا تحتاج إلى محمل يحملها ولا عدة تعدها لأنها أمة أمية تولى الله لها إقامة علمها وأعمالها...

{وبقية} قال الحرالي: فضلة جملة ذهب جلها {مما ترك} من الترك وهو أن لا يعرض للأمر حساً أو معنى {آل موسى وآل هارون} أي وهي لوحا العهد. قال الحرالي: وفي إشعار تثنية ذكر الآل ما يعلم باختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بوصف دون هارون عليه السلام بما كان فيه من الشدة في أمر الله وباختصاص هارون عليه الصلاة والسلام بما كان فيه من اللين والاحتمال حيث لم يكن آل موسى وهارون، لأن الآل حقيقة من يبدو فيه وصف من هو آله. وقال: الآل أصل معناه السراب الذي تبدو فيه الأشياء البعيدة كأنه مرآة تجلو الأشياء فآل الرجل من إذا حضروا فكأنه لم يغب...

ثم صرح بما أفهمه إسناد الإتيان إليه فقال: {تحمله} من الحمل وهو ما استقل به الناقل {الملائكة} وما هذا بأغرب من... مقاتلة الملائكة [معه] صلوات الله وسلامه عليهم في غزوة بدر فأمر شهير، كان الصحابي يكون قاصداً الكافر ليقاتله فإذا رأسه قد سقط من قبل أن يصل إليه، ولما كان هذا أمراً باهراً قال منبهاً على عظمته: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الشأن {لآية} أي باهرة {لكم إن كنتم مؤمنين *} فإن المواعظ لا تنفع غيرهم.

قال الحرالي: ولما ضعف قبولهم عن النظر والاستبصار صار حالهم في صورة الضعف الذي يقال فيه: إن كان كذا، فكان في إشعاره خللهم وفتنتهم إلا قليلاً...

وفي هذه القصة توطئة لغزوة بدر وتدريب لمن كتب عليهم القتال وهو كره لهم وتأديب لهم وتهذيب وإشارة عظيمة واضحة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بما دل عليه من أمر استخلافه في الإمامة في الصلاة التي هي خلاصة هذا الدين كما أن ما في تابوت الشهادة كان خلاصة ذلك الدين، وتحذير لمن لعله يخالف فيها أو يقول إنه ليس من بني هاشم ولا عبد مناف الذين هم بيت الإمامة والرئاسة ونحو ذلك مما حمى الله المؤمنين منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يأبى الله ذلك والمؤمنون" وفي توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعلام بأن أول مقصود به الأقرب منه صلى الله عليه وسلم فالأقرب، وفيها تشجيع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيما يندبهم إليه الصديق رضي الله عنه من قتال أهل الردة وما بعده إلى غير ذلك من الإشارات التي تقصر عنها العبارات -والله سبحانه وتعالى الموفق.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

انتهينا في قصة بني إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم إلى أنهم أرادوا أن يتخذوا الأسباب لإعادة ملكهم وإخراج العدو من ديارهم، فوجدوا أنه لابد من رياسة تقود إلى موطن العزة، وميدان الشرف والجهاد، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم قائدا يكون رئيسهم ويكون له ملكهم، وسموه ملكا؛ لأنهم لم يعرفوا الرئيس المالك للسلطان إلا باسم الملك، وقد اختار الله لهم طالوت، ولم يكن من ذي النسب فيهم، أو على الأقل لم يكن من أعلى الأنساب فيهم وكان في المال قلا، وما علموا أن الملك يكون في غير ذي المال والنسب، فبين الله سبحانه أن مناط الاختيار للسلطان القدرة على تحمل أعباء الملك، وذلك يتحقق بقدرة الجسم، وسعة المعرفة والعلم، وهما أمران قد تحققا في طالوت الذي اختاره الله سبحانه وتعالى. فالله سبحانه وتعالى يبين أن أساس الولاية قدرة الوالي على تحمل الأعباء الجسام بالتزود بالعلم الكثير والتجارب الواسعة، والجسم القوي الذي لا يخذله في ميدان الجهاد، وهم يرون الولاية بالوراثة [بين ذوي الأنساب] و ذوي الأموال، فالمناط عندهم المال الوفير والنسب، ولا عبرة بشيء وراء ذلك، والله سبحانه وتعالى يبين لهم أن الاعتبار للقدرة، ولا عبرة بما وراء ذلك. فسكتوا، ثم أراد رب العالمين أن يثبت قلوبهم، ويزيل شكهم، فذكر لهم علامة ملكه، وأمارة السلطان الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على ذلك الحاكم المختار، فأوحى إلى نبيهم المبعوث أن يسوق إليهم البشرى، فقال سبحانه: {و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة} لقد خضعوا لقول نبيهم ولحكم الله باختيار طالوت وليا لأمرهم، متوليا قيادتهم، ولكنه خضوع القلق المضطرب الذي لم يصب السكون قلبه، فلم تطمئن قلوبهم، فساق الله إليهم آية تدل على سلطان الله، إذ لابد من أمارة تثبت القلوب، وخصوصا أنهم مقدمون على حرب فيها تشتد الشديدة وتبتلى القلوب، فلابد من نفوس ملتفة حول قائد لا يرين عليها شيء من الريب، ولا يمسها شيء من ظلمة الشك، بل يكون الخضوع الكامل، والاتحاد الشامل، والتآلف بين الجيش والقائد.

و لقد كانت العبارة السامية {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة} هذه العبارة الكريمة موضع نظر أولئك الباحثين على اختلاف مناهجهم، فالذين لا يحكمون العبارات بالأسباب العادية قالوا: إنه قد أتاهم التابوت تحمله الملائكة حقا، وإن كان هذا بطريقة لم يفصلها القرآن، فهي واضحة الدلالة بينة المعنى، ويرشحون قولهم بأن الآية الإلهية التي تدل على اختيار طالوت يجب أن تكون أمرا خارقا للعادة، لتكون الدلالة على اصطفاء الله له قائدا ومدبرا واضحة بينة، فالملائكة حملته حقا، وهم جنود الله الذين لا نراهم وإن كنا نؤمن بهم. و الفريق الثاني الذي يفسر القرآن بالأسباب العادية ما وسعت العبارات ذلك قالوا: إن التابوت قد جاء إلى بني إسرائيل إما بأنهم عثروا عليه، وقد غيب عنهم أمدا طويلا من غير أن يعلموا له مكانا، والآية هي إخبار نبيهم لهم بذلك قبل وقوعه، وحمل الملائكة له هو بالقوة الروحية التي وفقتهم له بعد طول فقدهم كالقوى الروحية التي أيدت المسلمين في غزوة بدر وغيرها من الغزوات الإسلامية. وإما أن يقال: إن إعادة التابوت في جولات الحرب التي كللت بالانتصار هي العلامة على إمرة طالوت التي كانت باختيار إلهي، وأمر لدني، والمعنى على ذلك: إن آية ملكه وأمارته أنه سيقودكم إلى مواطن الظفر ومواضع الفخار وستعود إليكم في حروبه شارة عزتكم، وأمارة مجدكم التليد، وعزكم الغابر وهي التابوت، وإنه سيعود إليكم مكرما معززا تحمله ملائكة الله، والقوى الروحية. وفي هذا إشارة إلى أن أمارة السلطان العمل المنتج المثمر.

{إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة السامية، لبيان أن عليهم أن يخضعوا لإمرة طالوت بعد أن تبين لهم اختيار الله له، واصطفاؤه، والمعنى: إن في عناية الله سبحانه وتعالى بكم، من إعادته التابوت شارة عزكم، لآية لكم وعلامة توجب عليكم أن تخضعوا، ولا تتململوا، ولا تتمردوا إن كنتم مؤمنين. أي إن كان شأنكم أن تؤمنوا بالحق، وتذعنوا إذا علمتموه. وهذا التخريج على اعتبار هذه الجملة السامية من كلام بني إسرائيل لهم، فهي تبين وجوب الطاعة عليهم بعد هذه البينات.

و يحتمل أن الخطاب في هذه الجملة السامية للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون المعنى: إن ذلك القصص الحكيم، وتلك العظات البالغة لآية، أي لأمارة تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه، وأنه يتحدث عن ربه؛ لأنه وهو النبي الأمي الذي لم يقرأ كتابا، ولم يجلس إلى معلم، ولم يلقن أي علم من أي طريق قد ساق إليكم تلك الأخبار الصادقة، فهي آية من آيات نبوته إن كان من شأنكم الإذعان للحق إن بدت آياته وظهرت بيناته.