ثم بين - سبحانه - إن إغواء الشيطان لأهل سبأ ولأشباههم من بنى آدم ، لم يكن عن قسر وإكراه ، وإنما كان عن اختيار منهم ليتميز الخبيث من الطيب فقال - تعالى - : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } .
والمراد بالسلطان هنا : التسلط بالقهر والغلبة والإِكراه . والمراد بالعلم فى قوله - تعالى - { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } إظهار هذا العلم للناس ليتميز قوى الإِيمان من غيره .
أى : وما كان لإِبليس عليهم سلطان قاهر يجعلهم لا يملكون دفعه ، وإنما كان له عليهم الوسوسة التى يملكون صرفها ودعفها متى حسنت صلتهم بنا ، ونحن ما أبحنا لإِبليس الوسوسة لبنى آدم ، إلا لنظهر فى عالما لواقع حال من يؤمن بالآخرة وما فهيا من ثواب وعقاب ومحسبا ، ولنميزه عمن هو منها فى شك وريب وإنكار . .
قال الشوكانى - رحمه الله - : والاستثناء فى قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } منقطع أى : لا سلطان له عليهم ، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم .
وقيل : هو متصل مفرغ من أعم العلل . أى : ما كان له عليهم من تسلط بحال من الأحوال ، ولا لعلة من العلل ، إلا ليتميز من يؤمن ومن لا يؤمن ، لأنه - سبحانه - قد علم ذلك علما أزليا . وقال الفراء : إلا لنعلم ذلك عندكم . والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإِظهار .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } أى : وربك - أيها الرسول الكريم - على كل شئ رقيب وحفيظ ، بحيث لا يخرج شئ عن حفظه وهيمنته وعلمه وقدرته .
وهكذا نجد القرآن قد ساق لنا قصتين متعاقبتين ، إحداهما تدل على أن طاعة الله - تعالى وشكره ، وإخلاص العبادة له ، ومحسن الصلة به - سبحانه - ، كل ذلك يؤدى إلى المزيد من نعمه - تعالى - ، كما محدث لداود وسليمان - عليهما السلام - .
وأما الثانية فتدل على ان الجحود والبطر والانغماس فى المعاصى والشهوات . كل ذلك يؤدى إلى زوال النعم ، كا حدث لقبيلة سبأ .
وصدق الله إذ يقول : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قوله : { وما كان له عليهم من سلطان } أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه .
وفعل { كان } في النفي مع { مِن } التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان ، أي المِلك والتصريف للشيطان ، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى .
والاستثناء في قوله : { إلا لنعلم } استثناء من علل . فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله ، أي لكن جعلنا الشيطان سبباً يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوستُه فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء وهؤلاء من قوة الانفعال أو الممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات .
ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان ، وحذف المستثنى ودلّ عليه علته والتقدير : إلا سلطاناً لنعلم من يؤمن بالآخرة . فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة .
وانظر ما قلناه عند قوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } في سورة الحجر ( 42 ) وضُمَّه إلى ما قلناه هنا .
واقتُصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز مَن يؤمن بالآخرة ومَن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سَبا وهم كفار قريش لأن جحودهم الآخرة قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك له ، وإلا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين ، والمتقين من المعرضين . وكني ب نعلم عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف . قال قبيصة الطائي من رجال حرب ذي قار :
وأقبلت والخطيُّ يَخطِر بيننا *** لأعَلَم مَن جبانها من شجاعها
أراد ليتميز الجبان من الشجاع فيعلمه الناس ، فإن غرضه الأهم إظهار شجاعة نفسه لثقته بها لا اختبار شجاعة أقرانه وإلا لكان متردداً في إقدامه . فالمعنى : ليظهر من يؤمن بالآخرة ويتميز عمّن هو منها في شك فيعلمه من يعلمه ويتعلق علمنا به تعلقاً جُزئياً عند حصوله يترتب عليه الجزاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن لا محيص من اعتبار تعلق تنجيزيّ لعلم الله . ورأيت في الرسالة « الخاقانية » لعبد الحكيم السلكوتي أن بعض العلماء أثبت ذلك التعلق ولم يعين قائله . وخولف في النظم بين الصلتين فجاءت جملة { من يؤمن بالآخرة } فعلية ، وجاءت جملة { هو منها في شك } اسمية لأن الإِيمان بالآخرة طارىء على كفرهم السابق ومتجدد ومتزايد آنا فآنا . فكان مقتضى الحال إيراد الفعل في صلة أصحابه .
وأما شكهم في الآخرة فبخلاف ذلك هو أمر متأصل فيهم فاجتلبت لأصحابه الجملة الإسمية .
وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله : { منها } بقوله : « بشك » .
وجملة { وربك على كل شيء حفيظ } تذييل . والحفيظ : الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه ، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعهما تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يُتبع الحفظ بالعلم كثيراً كقوله تعالى : { إني حفيظ عليم } [ يوسف : 55 ] . وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم { كل شيء } أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله : { لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } ، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.