السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيۡهِم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يُؤۡمِنُ بِٱلۡأٓخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِي شَكّٖۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ} (21)

ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمراً بنفسه نفاه بقوله تعالى : { وما } أي : والحال أنه ما { كان } أصلاً { له عليهم } أي : الذين اتبعوه ولا غيرهم ، وأغرق فيما هو الحق من النفي بقوله تعالى : { من سلطان } أي : تسلط قاهر بشيء من الأشياء بوجه من الوجوه ، لأنه مثلهم في كونه عبداً عاجزاً مقهوراً ذليلاً خائفاً مدحوراً قال القشيري : هو مسلط ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه والمعنى : أن الأمر لله وحده { إلا } أي : لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا ، وملكناه قيادهم بقهرنا ، وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال : { لنعلم } أي : بما لنا من العظمة { من يؤمن } أي : يوجد الإيمان لله { بالآخرة } أي : ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تمييزه تعلقاً تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقاً به في عالم الغيب { ممن هو منها } أي : الآخرة { في شك } فهو لا يجدد لها إيماناً أصلاً لأن الشك ظرف له محيط به ، وإنما استعار إلا موضع لكن إشارة إلى أنه مكنه تمكيناً تاماً صار به كمن له سلطان حقيقي .

تنبيه : قال الرازي : إن علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد محيط لكل معلوم ، وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ، ولكن يتغير تعلق علمه ، فإن العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله تعالى في الأزل أن العالم سيوجد ، فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه معدوماً ، كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمرو تظهر فيها صورته ، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها ، وإنما التغيير في الخارجيات ، وكذا هنا قوله { إلا لنعلم } أي : ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر ، والإيمان من المؤمن ، وكان علم الله تعالى أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو وقال البغوي : المعنى إلا لنميز المؤمن من الكافر ، وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب وقوله تعالى { وربك } أي : المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك واجتنابه عن أمتك { على كل شيء } من المكلفين وغيرهم { حفيظ } أي : حافظ أتم حفظ تحقيق ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع ، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز .