معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيۡهِم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يُؤۡمِنُ بِٱلۡأٓخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِي شَكّٖۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ} (21)

وقوله : { وَما كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ21 } يُضِلّهم به حُجّة ، إلاّ أنا سلَّطْناهُ عليهم لِنعلم من يؤمن بالآخرة .

فإن قال قائل : إنّ الله يعلم أمرهم بتسليط إبليس وبغير تسليطه . قلتُ : مثل هذا كثير في القرآن . قال الله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدينَ مِنْكُمْ والصّابِرينَ } وهو يعلم المجاهدَ والصّابِرَ بغير ابتلاء ، ففيه وَجْهان . أحدهما أنّ العرب تشترط للجاهل إذا كلَّمتْه بشبه هذا شرطاً تُسنِده إلى أنفسها وهي عالمة ؛ ومخْرج الكلام كأنه لمن لا يعلم . من ذلك أن يقول القائل : النار تُحرق الحطب فيقول الجاهِل : بل الحطب يُحرق النار ، ويقولَ العالم : سنأتي بحطب ونارٍ لنعلم أيّهما يأكل صاحبه فهذا وَجْهُ بيّن . والوجْهُ / 153 ا الآخر أن تقول { لنَبْلُونَّكُمْ حتَّى نَعْلَمَ } معناه : حتى نعلم عنكم فكأن الفعل لهم في الأصل . ومثله مما يدلّك عليه قوله { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ َهُوَ أهْوَنُ عَلَيْه } عندكم يا كَفَرَة ؛ ولم يقل : ( عندكم ) يعنى : وليسَ في القرآن ( عندكم ) ؛ وذلك معناه . ومثله قوله { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ العزيزُ الكريمُ } عند نفسك إذ كنت تقوله في دنياك . ومثله ما قال الله لعيسى { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلناسِ } وهو يعلم ما يقول وما يجيبه به ؛ فردّ عليه عيسى وهو يعلم أن الله لا يحتاج إلى إجابته . فكما صَلح أن يَسأل عَما يعلم ويلتمس من عبْده ونبيّه الجواب فكذلك يشرط من فعل نفسه ما يعلم ، حتى كأنه عند الجاهل لا يعلم .