معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } أي : ينزل بكم الموت ، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } فرد الله تعالى عليهم بقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت } .

قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيدة } ، والبروج : الحصون والقلاع ، والمشيدة : المرفوعة المطولة ، قال قتادة : معناه في قصور محصنة ، وقال عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص .

قوله تعالى : { وإن تصبهم حسنة } ، نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ، ومزارعنا ، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال الله تعالى : { وإن تصبهم } يعني : اليهود { حسنة } أي خصب ورخص في السعر .

قوله تعالى : { يقولوا هذه من عند الله } ، لنا .

قوله تعالى : { وإن تصبهم سيئة } يعني : الجدب وغلاء الأسعار .

قوله تعالى : { يقولوا هذه من عندك } أي : من شؤم محمد وأصحابه ، وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، ( يقولوا هذه من عندك ) أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين . قوله تعالى : { قل } لهم يا محمد .

قوله تعالى : { كل من عند الله } . أي : الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال قوله تعالى : { فمال هؤلاء القوم } يعني : المنافقين واليهود قوله تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } أي : لا يفقهون قولاً ، وقيل : الحديث هاهنا هو القرآن أي : لا يفهمون معاني القرآن . قوله : { فمال هؤلاء } قال الفراء : كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها ، وأنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة ، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

ثم بين - سبحانه - أنه لا مفر لهم من الموت ، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال - تعالى - : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } .

والبروج : مع برج وهو الحصن المنيع الذى هو نهاية ما يصل إليه البشر فى التحصن والمنعة . وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور . يقال : تبرجت المرأة ، إذا أظهرت محاسنها . والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة .

والمشيدة : أى المحكة البناء ، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه ، والمعنى : إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت ، فأنتم بهذا الظن مخطئون ، لأن الموت حيثما سيدرككم ، ولو كنتم فى أقوى الحصون ، وأمنعها وأحكمها بناء ، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون .

والجملة الكريمة لا محل لها من الإِعراب ، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال ، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإِقدام عليه من أجل نصرة الحق .

ويحتمل أنها فى محل نصب ، فتكون داخلة فى حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى : قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل . وقل لهم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } .

وأين : اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين ، و " ما " زائدة للتأكيد ، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه .

والتعبير بقوله { يُدْرِككُّمُ } للإِشعار بأن الموت كأنه كائن حى يطلب الإِنسان ويتبعه حيثما كان ، وفى أى وقت كان ، فهو طالب لابد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه هما تحصن منه ، أو هرب من لقائه .

وجواب ( لو ) محذوف اعتماداً على دلالة ما قبله عليه أى : ولو كنتم فى بروج مشيدة لأدرككم الموت .

وقريب فى المعنى من هذه الآية قوله - تعالى - { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل } وقوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فالجملة الكريمة صريحة فى بيان أن الموت أمر لا مفر منه ، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإِنسان أم لم يقاتل . وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه . . . ولو رام أسباب السماء بسلم

ثم حكى - سبحانه - ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم فى الكفر من باطل وزور فقال - تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .

أى : إن هؤلاء المنافقين وأشباههم ، من ضعاف الإِيمان وإخوانهم فى الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله ، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك - وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم - .

وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى - عليه السلام - كما حكاه القرآن عنهم فى قوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } قال القرطبى : نزلت هذه الآية فى اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى { مِنْ عِندِكَ } أى : بسوء تدبيرك . وقيل { مِنْ عِندِكَ } أى بشؤمك الذى لحقنا ، قالوه على جهة التطير .

وقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة . أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هى من جهة الله - تعالى خلقا وإيجاداً من غير أن يكون لى مدخل فى وقوع شئ منها بوجه من الوجوه كما تزعمون :

وقوله { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة ، والفاء فى قوله { فَمَالِ } لترتيب ما عدها على ما قبلها والمعنى . وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شئ من عند الله ، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم فى الكفر وضعف الإِيمان لا يكادون - لانطماس بصيرتهم - يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون ، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط ، وأنه المعطى المانع .

قال - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم }

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

{ أينما تكونوا يدرككم الموت } قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها . أو على أنه كلام مبتدأ ، وأينما متصل ب{ لا تظلمون } . { ولو كنتم في بروج مشيدة } في قصور أو حصون مرتفعة ، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور ، من تبرجت المرأة إذا ظهرت . وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم : قصيدة شاعرة ، ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه . { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية ، وهما المراد في الآية أي : وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى ، وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها . { قل كل من عند الله } أي يبسط ويقبض حسب إرادته . { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } يوعظون به ، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانية لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى ، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيتفكرون فيه فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى .