قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر } ، الجهد والشدة ، { دعانا لجنبه } ، أي : على جنبه مضطجعا ، { أو قاعدا أو قائما } ، يريد في جميع حالاته ، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات . { فلما كشفنا } ، دفعنا { عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } ، أي استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي : لم يطلب منا كشف ضر مسه . { كذلك زين للمسرفين } المجاوزين الحد في الكفر والمعصية ، { ما كانوا يعملون } ، من العصيان . قال ابن جريج : كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الدعاء عند البلاء وترك الشكر عند الرخاء . وقيل : معناه كما زين لكم أعمالكم زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم .
ثم صور - سبحانه - طبيعة الإِنسان في حالتي العسر واليسر فقال : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ .
والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة .
والضر : ما يصيب الإِنسان من سوء الحال في نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه .
والمعنى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } عن طريق المرض أو الفقر أو غيرها { دَعَانَا } بإلحاح وتضرع لكي نكشفه عنه ، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه ، وتارة يدعونا وهو قاعد ، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } وما أصابه من سوء { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ } أي : مضى واستمر في غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب ، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها .
وخص - سبحانه - هذه الأحوال بالذكر ، لعدم خلو الإِنسان عنها في العادة .
وقيل : يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار ، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم ، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد ، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : " فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟
قلت : معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا في حالاته كلها ، سواء أكان منبطحا عاجزاً عن النهوض ، أم كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أم كان قائما لا يطيق المشي .
ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف ، وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأن الإِنسان للجنس . . .
وفي التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى لو كان يسيراً فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه .
وقوله : { لجنبه } في موضع الحال من فاعل { دعانا } و { أو } لتنويع الأحوال ، أو لأصناف المضار .
والتعبير بقوله - سبحانه { مر } يمثل أدق تصوير لطبيعة الإِنسان الذي يدعو الله عند البلاء ، وينساه عند الرخاء ، فهو في حالة البلاء يدعو الله في كل الأحوال ، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع في تيار الحياة . يدون كابح ، ولا زاجر ، ولا مبالاة ، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر . .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : كما زين لهذا الإِنسان الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرخاء ، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله ، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره ، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه في كونه .
قال الآلوسى : " وفى الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة ، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء .
فإن ذلك أرجى للإِجابة . ففي الحديث الشريف : " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : ادع الله يوم سرائك يستجيب لك يوم ضرائك .
وفى حديث للترمذي عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإِسناد " من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب ، فليكثر من الدعاء عن الرخاء " .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : " وقد ذم الله - تعالى - من هذه طريقته وصفته في الدعاء . أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك ، - لأنه يدعو الله في الشدة والرخاء - ، وفي الحديث الشريف : " عجباً لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له : إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر ، كقوله : { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] أي : كثير ، وهما في معنى واحد ؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها ، وأكثر الدعاء عند ذلك ، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه ، وفي جميع أحواله ، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء ، { مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }
ثم ذم تعالى مَنْ هذه صفته وطريقته{[14089]} فقال : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد ، فإنه مستثنى من ذلك ، كما قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] ، وكقول{[14090]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن{[14091]} لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن{[14092]} .
وقوله تعالى : { وإذا مسّ الإنسان الضر } الآية ، هذه الآية أيضاً عتاب على سوء الخلق من بعض الناس ، ومضمنه النهي عن مثل هذا والأمر بالتسليم إلى الله تعالى والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره ، وقوله { لجنبه } في موضع حال كأنه قال : مضطجعاً ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان والعامل فيه { مس }{[6043]} ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في { دعانا } والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان ، و { الضر } لفظ لجميع الأمراض ، والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين ، وقيل هو مختص برازيا البدن ، الهزال والمرض ، وقوله { مر } يقتضي أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص ، فمعنى الآية { مر } في إشراكه بالله وقلة توكله عليه ، وقوله { زين } إن قدرناه من الله تعالى فهو خلقه الكفر لهم واختراعه في نفوسهم صحبة أعمالهم الفاسدة ومثابرتهم عليها ، وإن قدرنا ذلك من الشيطان فهو بمعنى الوسوسة والمخادعة ، ولفظة التزيين قد جاءت في القرآن بهذين المعنيين من فعل الله تعالى ومرة من فعل الشياطين .