قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } . يعني المنافقين ، عبد الله بن أبي وأصحابه ، ( وقالوا لإخوانهم ) في النفاق والكفر ، وقيل : في النسب .
قوله تعالى : { إذا ضربوا في الأرض } . أي سافروا فيها لتجارة أو غيرها .
قوله تعالى : { أو كانوا غزى } . أي غزاةً جمع غاز فقتلوا .
قوله تعالى : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك } . يعني قولهم وظنهم .
قوله تعالى : { حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير } . قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
قوله { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } الخ كلام مستأنف قصد به تحذير المؤمنين من التشبه بالكافرين ومن الاستماع إلى أقوالهم الذميمة .
والمراد بالذين كفروا المنافقون كعبد الله بن أبى بن سلول وأشباهه من المنافقين الذين سبق للقرآن أن حكى عنهم أنهم قالوا : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وإنما ذكرهم بصفة الكفر للتصريح بمباينة حالهم لحال المؤمنين وللتنفير عن مماثلتهم ومسايرتهم . وقيل المراد بهم جميع الكفار .
والمراد بإخوانهم : إخوانهم فى الكفر والنفاق والمذهب أو فى النسب وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } أى سافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا . وأصل الضرب : إيقاع شىء على شىء ثم استعمل فى السير ، لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل ، ثم صار حقيقة فيه .
وقوله : { غُزًّى } جمع غاز كراكع وركع ، وصائم وصوم ، ونائم ونوم .
والمعنى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا بفزع وجزع من أجل إخوانهم الذين فقدوهم بسبب سفرهم للتجارة أو بسبب غزوهم فى سبيل الله .
قالوا على سبيل التفجع : لو كان هؤلاء الذين ماتوا فى السفر أو الغزو مقيمين معنا ، أو ملازمين بيوتهم ، ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا فيها لبقوا أحياء ولما ماتوا أو قتلوا .
وقولهم هذا يدل على جبنهم وعجزهم ، كما يدل على ضعف عقولهم وعدم إيمانهم بقضاء الله وقدره ، إذ لو كانوا مؤمنين بقضاء الله وقدره لعلموا أن كل شىء عنده بمقدار ، وأن العاقل هو الذى يعمل ما يجب عليه بجد وإخلاص ثم يترك بعد ذلك النتائج لله يسيرها كيف يشاء .
وقولهم هذا بجانب ذلك يدل على سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، لأنهم قصدوا به تثبيط عزائم المجاهدين عن الجهاد ، وعن السعى فى الأرض من أجل طلب الرزق الذى أحله الله .
والنهى فى قوله - تعالى { لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } يشعر بالتفاوت الشديد بين المقامين : مقام الإيمان ومقام الكفران ، وأنه لا يليق بالمؤمن أن ينحدر إلى المنحدر الدون وهو التشبه بالكافرين ، بعد أن رفعه الله بالإيمان إلى أعلى عليين ، وفى هذا تقبيح للمنهى عنه بأبلغ وجه وبأدق تصوير .
واللام فى قوله { لإِخْوَانِهِمْ } يرى صاحب الكشاف أنها للتعليل فقد قال : قوله : { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أى لأجل إخوانهم ، كقوله - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ويجوز أن تكون اللام للدلالة على موضع الخطاب ، ويكون المعنى : لا تكونوا أيها المؤمنون كهؤلاء الذين كفروا وقالوا لإخوانهم الأحياء : لو كان أولئك الذين فقدناهم ملازمين لبيوتهم ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا لما أصابهم ما أصابهم من الموت أو القتل .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل إن قوله { قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } يدل على الماضى ، وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما ؟
أولها : أن قوله { قَالُواْ } تقديره : يقولون ، فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا .
وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضى للتأكيد وللإشعار بأن جدهم فى تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد ينظر لى هذا المستقبل كالكائن الواقع .
وثانيها : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية . والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا فى الأرض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك فلا بد أن يقول : قالوا .
وثالثها : قال " قطرب " كلمة " إذ " و " وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وهو حسن لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى " .
وقوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } معطوف على { ضَرَبُواْ فِي الأرض } من عطف الخاص بعد العام ، اعتناء به لأن الغزو هو المقصود فى هذا المقام وما قبله توطئة له .
قالوا : على أنه قد يوجد الغزو بدون الضرب فى الأرض بناء على أن المراد بالضرب فى الأرض السفر البعيد ، فيكون على هذا بين الضرب فى الأرض وبين الغزو خصوص وعموم من وجه .
وإنما لم يقل أو غزوا : للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة ، أو لا نقضاء ذلك ، أى كانوا غزاة فيما مضى .
وقوله { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فى محل نصب مقول القول .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على أقوالهم من عواقب سيئة فقال : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .
والحسرة - كما يقول الراغب - هى غم الإنسان على ما فاته ، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذى حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت قواه - أى انسلخت - من فرط الغم ، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط " .
فالحسرة هى الهم المضنى الذى يلقى على النفس الحزن المستمر والألم الشديد ، واللام فى قوله { لِيَجْعَلَ } هى التى تسمى بلام العاقبة ، وهى متعلقة بقالوا أى قالوا ما قالوا لغرض من أغراضهم التى يتوهمون من ورائها منفعتهم ومضرة المؤمنين فكان عاقبة قولهم ومصيره إلى الحسرة والندامة لأن المؤمنين الصادقين لن يلتفتوا إلى هذا القول . بل سيمضون فى طريق الجهاد الذى كتبه الله عليهم وسيكون النصر الذى وعدهم الله إياه حليفهم وبذلك يزداد الكافرون المنافقون حسرة على حسرتهم .
ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويكون المعنى : أن الله - تعالى - طبع الكفار على هذه الأخلاق السيئة بسبب كفرهم وضلالهم لأجل أن يجعل الحسرة فى قلوبهم والغم فى نفوسهم والضلال بهذه الأقوال والأفعال فى عقولهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قتل ما متعلق ليجعل ؟ قلت : قالوا . أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة فى قلوبهم على أن اللام مثلها فى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أو لا تكونوا بمعنى : لا تكونوا مثلهم فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم . فإن قلت : ما معنى إسناد الفعلى إلى الله ؟ قلت : معناه أن الله - تعالى - عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة فى قلوبهم ويضيق صدورهم عقوبة لهم . كما قال - تعالى - { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهى ، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثهلم حسرة فى قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم " .
والجعل هنا بمعنى التصيير ، وقوله { حَسْرَةً } مفعول ثان له ، وقوله ، { فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بيجعل .
وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها ، لإرادة التمكن ، والإيذان بعدم الزوال .
وقوله { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } رد على قولهم الباطل أثر بيان سوء عاقبته وحض للمؤمنين على الجهاد فى سبيل الله وترغيب لهم فى العمل الصالح ، أى أن الأرواح كلها بيد الله يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء فالقعود فى البيوت لا يطيل الآجال كما أن الخروج للجهاد فى سبيل الله أو للسعى فى طلب الرزق لا ينقصها وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يسارع إلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وأن يسعى فى الأرض ذات الطول والعرض ليأكل من رزق الله وأن يباشر الأسباب التى شرعها الله بدون عجز أو كسل وليعلم أن الله مطلع على أعمال الناس وأقوالهم وسيجازيهم عليها يوم القيامة بما يستحقون من خير أو شر .
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد ، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي{[5977]} الحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم . فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي : عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } أي : سافروا للتجارة ونحوها {[5978]} { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي : في الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي : في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا }{[5979]} أي : ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو .
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم{[5980]} ثم قال تعالى ردا عليهم : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره ، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يعني المنافقين . { وقالوا لإخوانهم } لأجلهم وفيهم ، ومعنى أخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب { إذا ضربوا في الأرض } إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها ، وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية { أو كانوا غزى } جمع غاز كعاف وعفى . { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } مفعول قالوا وهو يدل على إن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به . { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } متعلق ب{ قالوا } على إن اللام لام العاقبة مثلها في { ليكون لهم عدوا وحزنا } ، أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة ، فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد . وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم . { والله يحيى ويميت } ردا لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد . { والله بما تعملون بصير } تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا .
تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً . والكلام استئناف . والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان . واللام في قولهم : { لإخوانهم } ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } لأنّ الإخوان ليسوا متكلّماً معهم بل هم الَّذين ماتوا وقُتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأنّ الشهداء من المؤمنين .
و ( إذ ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ ( قالوا وضَربوا ) ، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله : { ما ماتوا } تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو .
والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه } [ المزمل : 20 ] ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } [ النساء : 94 ] وقوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } [ النساء : 101 ] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة .
وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار .
و { غُزًّى } جمع غاز . وفُعَّل قليل في جمع فَاعل الناقص . وهو مع ذلك فصيح . ونظيره عُفَّى في قول امرىء القيس :
لَهَا قُلُب عُفَّى الحِيَاضضِ أُجُونُ
وقوله : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } علّة ل ( قَالوا ) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه . وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله : { ليجعل } على هذا الوجه من صلة ( الّذين ) ، ومن جملة الأحوال المشبّه بها ، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ .
والحَسرة : شدّة الأسف أي الحُزن ، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على مافتهم . والمؤمن يبذل جهده فإذا خَابَ سَلَّم لْحكم القدر .
وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه .