معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } . للحي لكي تعتبروا وتستدلوا . وقيل لكي تنتفعوا .

قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } . قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف : أي ارتفع إلى السماء . وقال ابن كيسان و الفراء وجماعة من النحويين : أي أقبل على خلق السماء . وقيل : قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء .

قوله تعالى : { فسواهن سبع سماوات } . وخلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع .

قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام ، زاد الكسائي و قالون : ثم هو و قالون أن يمل هو .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } . أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .

ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } .

استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .

والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .

وجملة { ثُمَّ استوى } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .

وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض ، فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي : قصد إلى السماء ، والاستواء هاهنا تَضَمَّن{[1457]} معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى { فَسَوَّاهُنَّ } أي : فخلق السماء سبعًا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : { فَسَوَّاهُنَّ } . { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق{[1458]} . كما قال : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] .

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله . فأما قوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 27 - 32 ] فقد قيل : إن { ثُمَّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما قال الشاعر :

قل لمن ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد ساد قبل ذلك جده{[1459]}

وقيل : إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .

وقد قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] {[1460]} } قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : { ن وَالْقَلَمِ{[1461]} } والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر مَلَك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر{[1462]} لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ{[1463]} } [ النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } [ فصلت : 9 ، 10 ] . يقول : أنبت شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } يقول : أقواتها لأهلها { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر . { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } [ فضلت : 12 ] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي{[1464]} فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظًا{[1465]} تُحْفَظُ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ويقول { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر{[1466]} ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عَجَل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

وقال مجاهد في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا } قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن تحت بعض .

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 27 - 31 ] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض . وفي صحيح البخاري{[1467]} : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 30 - 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضًا - من رواية ابن جُرَيج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل " {[1468]} .

وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه{[1469]} مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي{[1470]} .


[1457]:في جـ، ط: "مضمن".
[1458]:في جـ: "وعلمه محيط بجميع الخلق"، وفي ط: "وعلمه محيط بالأشياء بجميع ما خلق".
[1459]:البيت في مغني اللبيب لابن هشام غير منسوب. أ. هـ. مستفادا من حاشية الشعب.
[1460]:زيادة من جـ.
[1461]:في جـ: "والقلم وما يسطرون".
[1462]:في ب: "ذكرها"
[1463]:في جـ: "وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم"، وفي ط: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وفي ب: "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم".
[1464]:في جـ، ط: "الذين".
[1465]:في أ: "وحفظها".
[1466]:في جـ: "وأخر".
[1467]:صحيح البخاري (8/555) "فتح".
[1468]:تفسير ابن أبي حاتم (1/103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010).
[1469]:في جـ، ط، ب: "فجعله".
[1470]:الأسماء والصفات (ص276) وللعلامة عبد الرحمن المعلمي كلام متين في تصحيح هذا الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "الأنوار الكاشفة" (ص185 - 190) فليراجع فإنه مهم.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم . ومعنى { لكم } لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد . وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو . وجميعا : حال من الموصول الثاني .

{ ثم استوى إلى السماء } قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء . وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك ، قال :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و{ ثم } لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدرا لنصب الأرض فعلا آخر دل عليه { أأنتم أشد خلقا } مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر .

{ فسواهن } عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور . و{ هن } ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع . أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلا .

{ سبع سماوات } بدل أو تفسير . فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف .

{ وهو بكل شيء عليم } فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليما ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : { وهو بكل خلق عليم } .

وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم } فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير . وأما الثانية والثالثة : فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراع فيه مصالحهم وسد حاجاتهم . وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته . وقد سكّن نافع وأبو عمرو والكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بعضد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )

و { خلق } معناه اخترع وأوجد بعد العدم ، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئاً ، ومنه قول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الكامل ]

ولأنت تفري ما خلقت وبعض . . . القوم يخلق ثم لا يفري( {[393]} )

ومنه قول الآخر : [ مجزوء الكامل ]

من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله( {[394]} )

و { لكم } : معناه للاعتبار ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء ، والإماتة ، والخلق ، والاستواء إلى السماء وتسويتها( {[395]} ) .

وقال قوم : بل معنى { لكم } إباحة الأشياء وتمليكها ، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية( {[396]} ) ، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر ، والقائلون بالوقف ، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس ، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة ، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به .

ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل .

وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : «لم يخل العقل قط من السمع( {[397]} ) ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب » . قال : «فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف » ، و { جميعاً } نصب عل الحال .

وقوله تعالى : { ثم استوى } ، { ثم } هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه ، و { استوى } : قال قوم : «معناه علا دون تكييف ولا تحديد » ، هذا اختيار الطبري ، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه .

وقال ابن كيسان : «معناه قصد إلى السماء » .

قال القاضي أبو محمد : أي بخلقه واختراعه .

وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق . ( {[398]} )

وحكى الطبري عن قوم : أن المعنى أقبل ، وضعفه( {[399]} ) .

وحكي عن قوم «المستوي » هو الدخان .

وهذا أيضاً يأباه رصف الكلام( {[400]} ) ، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر( {[401]} ) الأخطل : [ الرجز ]

قد استوى بشر على العراقِ . . . من غير سيف ودم مهراقِ

وهذا إنما( {[402]} ) يجيء في قوله تعالى : { على العرش استوى }( {[403]} ) [ طه : 5 ] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة( {[404]} ) وحلول الحوادث ، ويبقى استواء القدرة والسلطان .

{ فسواهن } قيل المعنى جعلهن سواء ، وقيل سوى سطوحها بالإملاس ، و { سبع } نصب على البدل من الضمير ، أو على المفعول : ب «سوّى » ، بتقدير حذف الجار من الضمير ، كأنه قال فسوّى منهن سبع ، وقيل نصب على الحال ، وقال سواهن إما على أن السماء جمع ، وإما على أنه مفرد اسم جنس ، فهو دال على الجمع .

وقوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر ، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء ، وذلك صحيح( {[405]} ) ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا تتفق معاني الآيات : هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات .


[393]:- وهو لزهير بن أبي سلمى المزني، يمدح هرم بن سنان، ويقول: إنه إذا قدر شيئا قطعه وأمضاه، لمضاء عزمه وقوة إرادته.
[394]:- أنشده المبرد في (الكامل) الجزء الثاني، ونسبه إلى بعض المحدثين، وقبل البيت: لي حيلة فيمن ينـــــــــــــــــــــــــم وليس لي في الكذاب حيلة من كان يخــــــلق ما يقو ل فــحيـــلــتي فـــيه قــــليلة ونسبهما في (معجم الأدباء) إلى منصور بن إسماعيل الشافعي أبي الحسن التميمي الفقيه الشاعر الضرير المصري. يقال: نم الحديث ينُمه نما، أي: قَتَّه، والإسم: النميمة- والرجل نَمٌّ ونمَّام أي: قتَّات – الصحاح.
[395]:- نعمة خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى، ونعمة خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ويتم به معاشهم، فيمكن أن يكون معنى [لكم]: (لاعتباركم) بهذه النعمة، فتوحدونه وتطيعونه، وأن يكون معناه (لأجلكم) و(لانتفاعكم) فواجب أن تشكروه وتحمدوه وحده دون غيره، وأن تتقوَّوا بذلك على طاعته، وإصلاح أرضه، وواجب أن تعتبروا كذلك بالخلق والإماتة، وبالإستواء إلى السماء وتسويتها [ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو].
[396]:- قال ابن العربي: ليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة، ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة على الوحدانية.
[397]:- من السمع الإجماع.
[398]:- لأن اللفظ ينبو عن الدلالة عليه.
[399]:- الإقبال: هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى، فهو كقول ابن كيسان، ومن ذلك قول الحريري: فاستوى الغلام إليه، وقد استولى الخجل عليه: أي قصد.
[400]:- بعيد جدا لاختلاف الضمائر، وعوده على غير مذكور، ولا يقتضيه البيان، ولقوله تعالى: [ثم استوى إلى السماء وهي دخان].
[401]:- هو الأخطل النصراني.
[402]:- قال الفراء: تقول العرب: كان فلان مقبلا على فلان ثم اسيوى إلي وعلي يشاتمني. فعلي وإلي سواء. نقله عنه الإمام (ق) رحمه الله.
[403]:- من الآية 5 من سورة طه.
[404]:- أي: منع الحركة وحلول الحوادث، ويعني أن هذه التأويلات إنما جاءت فرارا مما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث، أو يحل هو سبحانه في حادث.
[405]:- ذلك أن (ثم) للترتيب، وهي تدل بحكم اللغة على أن الأرض خُلقت قبل السماء إلا أن خلق السماء اكتنفه خلْق الأرض أولا، وبسْطها ثانيا بإخراج الماء والمرعى وبإرساء الجبال عليها.