قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، يعني : الطواف عراة ، { ما ظهر } طواف الرجال بالنهار ، { وما بطن } طواف النساء بالليل ، وقيل : هو الزنا سراً وعلانيةً .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قلت أنت سمعت هذا من عبد الله ؟ قال : نعم رفعه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أحد أغير من الله ، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه . ) قوله تعالى : { والإثم } يعني : الذنب والمعصية . وقال الضحاك : الذنب الذي لا حد فيه ، قال الحسن : الإثم الخمر .
شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم تذهب بالعقول
قوله تعالى : { والبغي } ، الظلم الكبير .
قوله تعالى : { بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } ، حجةً وبرهاناً .
قوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ، في تحريم الحرث والأنعام ، في قول مقاتل . وقال غيره : هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من المحرمات التي نهى عباده عن اقترافها فقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ . . . } .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين ضيقوا على أنفسهم ما وسعه الله ، قل لهم : إن ما حرمه الله عليكم في كتبه وعلى ألسنة رسله هو هذه الأنواع الخمس التي أولها { الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } ، أى : ما كان قبيحاً من الأقوال والأفعال سواء أكان في السر أو العلن ، وثانيها وثالثها { الإثم والبغي بِغَيْرِ الحق } والإثم : هو الشىء القبيح الذي فعله يعتبر معصية ، والبغى : هو الظلم والتطاول على الناس وتجاوز الحد .
قال الإمام ابن كثير : " وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغى هو التعدى على الناس ، فحرم الله هذا وهذا " .
وقيد البغى بكونه بغير الحق ، لأنه لا يكون إلا كذلك . إذ معناه في اللغة تجاوز الحد . يقال : بغى الجرح . إذ تجاوز الحد في فساده .
وقيل قيده بذلك ليخرج البغى على الغير في مقابلة بغيه ، فإنه يسمى بغيا في الجملة . لكنه بحق ، وهو قول ضعيف لأن دفع البغى لا يسمى بغيا . وإنما يسمى انتصافا من الظالم ، ولذا قال القرآن : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } وقيل إن القيد هنا لإخراج الأمور التي ليس لهم فيها حقوق ، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها .
ورابع الأمور التي حرمها الله أخبر عنه القرآن بقوله : { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } .
أى : وحرم عليكم أن تجعلوا لله شركاى في عبادته بدون حجة وبرهان . وقوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } بيان للواقع من شركهم ، إذ أنهم لا حجة عندهم على شركهم : لا من العقل ولا من النقل ، فالجملة الكريمة قد اشتملت على التهكم بالمشركين وتوبيخهم على كفرهم .
وخامسها قوله - تعالى - : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أى : حرم عليكم أن تقولوا قولا يتعلق بالعبادات أو المحللات أو المحرمات أو غيرها بدون علم منكم بصحة ما تقولون ، وبغير بينة على صدق ما تدعون .
قال صاحب المنار : " ومن تأمل هذه الآية حق التأمل ، فإنه يتجنب أن يحرم على عباد الله شيئاً ويوجب عليهم شيئا في دينهم بغير نص صريح عن الله ورسوله ، بل يجتنب - أيضاً - أن يقول : هذا مندوب أو مكروه في الدين بغير دليل واضح من النصوص ، وما أكثر الغافلين عن هذا المتجرئين على التشريع " .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقِيقٍ ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغير من الله ، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش ، عن شقيق عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود{[11698]} وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن .
وقوله : { وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال السُّدِّي : أما الإثم فالمعصية ، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق .
وقال مجاهد : الإثم المعاصي كلها ، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه .
وحاصل ما فُسّر{[11699]} به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو التعدي إلى الناس ، فحرم الله هذا وهذا .
وقوله : { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : تجعلوا له شريكا في عبادته ، وأن تقولوا عليه{[11700]} من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك ، مما لا علم لكم به كما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ [ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] }{[11701]} الآية [ الحج : 30 ، 31 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت ، ويحرمون أكل طيبات ما أحلّ الله لهم من رزقه أيها القوم : إن الله لم يحرّم ما تحرّمونه ، بل أجلّ ذلك لعباده المؤمنين وطبّبه لهم . وإنما حرّم ربي القبائح من الأشياء ، وهي الفواحش ، ما ظهر منها فكان علانية ، وما بطن منها فكان سرّا في خفاء . وقد رُوي عن مجاهد في ذلك ما :
حدثني الحرث ، قال : ثني عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قال : ما ظهر منها طواف أهل الجاهلية عراة ، وما بطن : الزنا .
وقد ذكرت اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك بالروايات فيما مضى فكرهت إعادته .
وأما الإثم : فإنه المعصية . والبغي : الاستطالة على الناس . يقول تعالى ذكره : إنما حرّم ربي الفواحش مع الإثم والبغي على الناس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَالإثمَ والَبغْيَ أما الإثم : فالمعصية ، والبغي : أن يبغي على الناس بغير الحقّ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا في قوله : ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ والإثمَ والبَغْيَ قال : نهى عن الإثم وهي المعاصي كلها ، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه .
القول في تأويل قوله تعالى : وأنْ تُشْرِكُوا باللّهِ ما لَمْ يُنزّلّ بِهِ سُلْطانا وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .
يقول جل ثناؤه : إنما حرم ربي الفواحش والشرك به أن تعبدوا مَعَ الله إلها غيرَهُ ، ما لَمْ ينزّلْ بِهِ سُلْطانا يقول : حرّم ربكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شركا لشيء لم يجعل لكم في إشراككم إياه في عبادته حجة ولا برهانا ، وهو السلطان . وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يقول : وأن تقولوا : إن الله أمركم بالتعرّي والتجرّد للطواف بالبيت ، وحرّم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرّمتموها وسيّبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي ، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرّمه أو أمر به أو أباحه ، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به ، فإن ذلك هو الذي حرّمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرّمه أو تقولون إن الله أمركم به جهلاً منكم بحقيقة ما تقولون وتضيفونه إلى الله .
لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم ، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره ، و { الفواحش } ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش*** إذا هي نصته ولا بمعطل
ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث ، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه قوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل » في حديث السير ، ومنه قوله الحزين في كثير عزة : [ الطويل ]
قصير القميص فاحش عند بيته*** وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس . والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع ، والفاحش كذلك ، فقوله هنا { الفواحش } إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر ، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه ، وقوله : { ما ظهر منها وما بطن } يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء ، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال { ما ظهر } الطواف عرياناً ، والبواطن الزنى ، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال ، و { ما } بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل ، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو ، { والإثم } أيضاً : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور ، وقال بعض الناس : هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر : [ الوافر ]
قال القاضي وأبو محمد : وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق ، وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة .
قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله { فيهما إثم } لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله { قل فيهما إثم } وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة .
{ والبغي } : التعدي وتجاوز الحد ، كان الإنسان مبتدئاً بذلك أو منتصراً فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ ، وقوله : { بغير الحق } زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغياً ، { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله ، و «السلطان » البرهان والحجة ، { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه .