قوله تعالى : { فأجاءها } ، أي ألجأها وجاء بها ، { المخاض } ، وهو وجع الولادة ، { إلى جذع النخلة } وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، في شدة الشتاء ، لم يكن لها سعف . وقيل : التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة ، { قالت يا ليتني مت قبل هذا } ، تمنت الموت استحياءً من الناس وخوف الفضيحة ، { وكنت نسياً } ، قرأ حمزة و حفص نسياً بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان ، مثل : الوتر ، والوتر ، والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي ، و النسي في اللغة : كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته . { منسياً } ، أي : متروكاً قال قتادة : شيء لا يعرف ولا يذكر . قال عكرمة والضحاك ومجاهد : جيفة ملقاة . وقيل : تعني لم أخلق .
ثم حكى - سبحانه - ما اعتراها من حزن عندما أحست بقرب الولادة فقال : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } .
وقوله : { فَأَجَآءَهَا } أى : فألجأها ، يقال : أجأته إلى كذا ، بمعنى : ألجأته واضطرته إليه . ويقال : جاء فلان . وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجىء ، ومنه قول الشاعر :
وجارٍ سارَ معتمداً علينا . . . أجاءته المخافة والرجاء
قال صاحب الكشاف : " أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه . . " .
والمخاض : وجع الولادة . يقال : مخضت المرأة - بكسر الخاء - تمخض - بفتحها - إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين فى بطن الأم عند قرب خروجه .
وجذع النخلة : ساقها الذى تقوم عليه .
أى : وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به - وهو محمول فى بطنها - عن قومها ، وحان وقت ولادتها . ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لنتكىء عليه عند الولادة . . .
فاعتراها فى تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } الحمل والمخاض الذى حل بى { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أى : وكنت شيئاً منسياً متروكاً ، لا يهتم به أحد ، وكل شىء نُسى وترك ولم يطلب فهو نَسْىٌ ونسِيُّ .
قال القرطبى : " والنِّسْىُ فى كلام العرب : الشىء الحقير الذى من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر ، وقرىء : { نَسْياً } بكسر النون وهما لغتان مثل : الوِتر والوَتر . . . " .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفاً من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس فى المعصية بسبب كلامهم فى شأنها .
وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه - لأنه يتعلق بأمر دينى - نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر . . . ففى صحيح مسلم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : الله أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى " .
وقوله : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } [ أي : فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة ]{[18760]} وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه .
وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس .
وقال وهب بن مُنَبِّه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ، ضربها الطلق . وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس ، في قرية هناك يقال لها : " بيت لحم " .
قلت : وقد تقدم في حديث{[18761]} الإسراء ، من رواية النسائي عن أنس ، رضي الله عنه ، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس ، رضي الله عنه : أن ذلك ببيت لحم ، فالله أعلم ، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقد تلقاه الناس . وقد ورد به الحديث إن صح .
وقوله تعالى إخبارًا عنها : { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي قبل هذا الحال ، { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي لم أخلق ولم أك شيئًا . قاله ابن عباس .
وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل - استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } نُسِيَ فتُرِك طلبه ، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر . وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ .
وقال قتادة : { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي : شيئًا لا يعرف ، ولا يذكر ، ولا يدرى من أنا .
وقال الربيع بن أنس : { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } وهو{[18762]} السقط .
وقال ابن زيد : لم أكن شيئًا قط .
وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة ، عند قوله : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ]
وقوله : فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ يقول تعالى ذكره : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة ، ثم قيل : لما أسقطت الباء منه أجاءها ، كما يقال : أتيتك بزيد ، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا ، كما قال جلّ ثناؤه : آتُونِي زُبُرَ الحَدِيدِ والمعنى : ائتوني بزُبَر الحديد ، ولكن الألف مُدّت لما حذفت الباء ، وكما قالوا : خرجت به وأخرجته ، وذهبت به وأذهبته ، وإنما هو أفعل من المجيء ، كما يقال : جاء هو ، وأجأته أنا : أي جئت به ، ومثل من أمثال العرب : «شرّ ما أجاءني إلى مُخّة عرقوب » ، وأشاء ويقال : شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلى ذلك ومنه قول زهير :
وَجارٍ سارَ مُعْتَمِدا إلَيْكُمْ *** أجاءَتْهُ المَحافَةُ وَالرّجاءُ
يعني : جاء به ، وأجاءه إلينا وأشاءك : من لغة تميم ، وأجاءك من لغة أهل العالية ، وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى : ألجأها ، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة ، كان قد ألجأها إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فأجاءَها المَخاضُ قال : المخاض ألجأها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألجأها المخاض . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ يقول : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ قال : اضطرّها إلى جذع النخلة .
واختلفوا في أيّ المكان الذي انتبذتْ مريم بعيسى لوضعه ، وأجاءها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشام ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سهل ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقِل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها قَرابة لها ، يقال له يوسف النجّار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صِهْيَون ، وكان ذلك المسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم ، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم ، فرغبا في ذلك ، فكانا يليان معالجته بأنفسهما ، تحبيره وكناسته وطهوره ، وكلّ عمل يعمل فيه ، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبادة منهما ، فكان أوّل من أنكر حَمْل مريم صاحُبها يوسف فلما رأى الذي بها استفظعه ، وعظُم عليه ، وفُظِع به ، فلم يدر على ماذا يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها ، رأى الذي ظهر عليها فلما اشتدّ عليه ذلك كلّمها ، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته ، وقد حَرَصت على أن أميته وأكتمه في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري ، قالت : فقل قولاً جميلاً ، قال : ما كنت لأقول لك إلا ذلك ، فحدثيني ، هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم ، قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها ؟ قالت : نعم ، قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث ، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما وحده ، أم تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف لها : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون ، قالت مريم : أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر ؟ قال : بلى ، فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى ، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه ، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك .
ثم تولى يوسف خدمة المسجد ، وكفاها كلّ عمل كانت تعمل فيه ، وذلك لما رأى من رقة جسمها ، واصفرار لونها ، وكلف وجهها ، ونتوّ بطنها ، وضعف قوّتها ، ودأب نظرها ، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حُبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفا لعيسى ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آريّ حمار ، يعني مذود الحمار ، وأصل نخلة ، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرّا «الشكّ من أبي جعفر » ، فاشتدّ على مريم المخاض فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة ، قاموا صفوفا محدقين بها .
وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا ، وذلك ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لايتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما حضر ولادُها ، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء ، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء ، فوضعته عندها .
وقال آخرون : بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جِذع النخلة ، وذلك قول السدي ، وقد ذكرت الرواية به قبل .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملتْ فولدتْ .
وقوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس ، كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا .
تقول : يا ليتني متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل ، وكنت نِسيا منسيا : شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسيّ . ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، مثل الوَتر والوِتر ، والجَسر والجِسر ، وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبالفتح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر :
كأنّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُ *** إذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ
ويعني بقوله : تقصه : تطلبه ، لأنها كانت نسيته حتى ضاع ، ثم ذكرته فطلبته ، ويعني بقوله : تبلت : تحسن وتصدّق ، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا ، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول : نسيته نسيانا ونسيا ، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان ، يعني وعصيان ، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا ، كما قال الشاعر :
أَتُي الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرُوفَةٌ *** ويَرَوْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا
وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت : ليتني كنت الشيء الذي ألقي ، فترك ونسي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لم أخلق ، ولم أك شيئا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول : نِسيا : نُسي ذكري ، ومنسيا : تقول : نسي أثري ، فلا يُرى لي أثر ولا عين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال : لا أعرف ولا يدري من أنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال : هو السقط .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لم أكن في الأرض شيئا قط .
{ فأجاءها المخاض } فألجأها المخاض ، وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج . { إلى جذع النخلة } لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها . { قالت يا ليتني مت قبل هذا } استحياء من الناس ومخافة لومهم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر { مت } من مات يموت وكنت نسيا ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه لقلته { منسيا } منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع .
و { أجاءها } معناه ، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة{[7928]} ورويت عن عاصم «فاجأها » من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض » .
وجار سار معتمداً إليكم . . . أجاءته المخافة والرجاء{[7928]}
وقرأ الجمهور «المَخاض » بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها » ، روي أنها بلغت الى موضع كان فيه «جذع نخلة » بالٍيابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ، { يا ليتني مت } ولم يجر علي هذا القدر ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم{[7930]} وأبو عمرو وجماعة «مُت » بضم الميم ، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مِت » بكسرها واختلف عن نافع ، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح ، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن{[7931]} وقد أباحه عليه السلام في قوله : «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه »{[7932]} .
قال القاضي أبو محمد : لأنه زمن فتن يذهب بالدين ، { وكنت نسياً } أي شيئاً متروكاً محتقراً ، و «النسي » في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده ، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه ، ويقال «نِسي » بكسر النون و «نَسي » بفتحها ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ حمزة وحده بالفتح ، واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة ، قرأ طلحة ويحيى والأعمش ، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نِسئاً » بكسر النون ، وقرأ نوف البكالي «نَسأً » بفتح النون ، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب ، وقرأ بكر بن حبيب «نَسّاً » بشد السين وفتح النون دون همز ، وقال الشنفرى : [ الطويل ]
كأنَّ لها في الأرض نسّاً تقصه . . . إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت{[7933]}
وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضاً أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت ؟ » قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت ؟ » قالت له «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك » وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه الى ناحية بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله تعالى { مصدقاً بكلمة من الله }{[7934]} [ آل عمران : 39 ] وفي هذا كله ضعف فتأمله . وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني اسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه ، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملاً على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول الجمهور المتأولين ، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم . وظاهر قوله { فأجاءها المخاض } يقتضي أنها كانت على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة .
الفاء في قوله : { فَأَجَاءَها المَخَاضُ } للتعقيب العُرفي ، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل ، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها .
و { أجَاءها } معناه ألْجأها ، وأصله جاء ، عدي بالهمزة فقيل : أجاءه ، أي جعله جائياً . ثم أطلق مجازاً على إلجاء شيء شيئاً إلى شيء ، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء ، ويضطره إلى المجيء إليه . قال الفراء : أصله من جئتُ وقد جعلته العرب إلْجاء . وفي المثل شرّ ما يُجيئك إلى مُخّة عرْقُوب . وقال زهير :
وجارٍ سارَ معتمداً إلينا *** أجَاءته المخافةُ والرجاء
والمَخاض بفتح الميم : طَلق الحامل ، وهو تحرك الجنين للخروج .
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة : العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد . وهو ما بين العروق والأغصان ، أي إلى أصل نخلة استندت إليه .
وجملة { قَالَتْ } استئناف بياني ، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف ، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك ؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها .
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية .
والمشار إليه في قولها { قبل هذا } هو الحمل . أرادتْ أن لا يُتطرق عِرضها بطعن ولا تجرّ على أهلها معرة . ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدوّ الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة .
وقرأ الجمهور { مِتّ } بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } في سورة آل عمران ( 157 ) . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل . وهما لغتان في فعل مات إذا اتّصل به ضمير رفع متصل .
والنِسْيُ بكسر النون وسكون السين } في قراءة الجمهور : الشيء الحقير الذي شأنه أن يُنسى ، ووزن فِعْل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيْد تهيئته لتعلّق الفعل به دون تعلق حصل .
وذلك مثل الذبح في قوله تعالى : { وفديناه بذبح عظيم } [ الصافات : 107 ] ، أي كبش عظيم معدّ لأن يذبح ، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح ، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذَبيح . والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنْسَاءً ، ويقولون عند الارتحال : انظروا أنساءكم ، أي الأشياء التي شأنكم أن تَنْسَوها .
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها ، أي ليتني كنت شيئاً غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به ، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك .
وقرأه حمزة ، وحفص ، وخلف { نَسْياً بفتح النون وهو لغة في النِّسي ، كالوتر والوتر ، والجسر والجسر .