معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ، ويحلقون رؤوسهم ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا حسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .

وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري : " قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده " . ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية ، وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل ، فقال جل ذكره : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } أخبر أن الرؤية التي أراها إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق . قوله : { لتدخلن } يعني : وقال : لتدخلن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى ، تأدباً بآداب الله ، حيث قال له : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف-23 ) . وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى " إذ " ، مجازه : إذ شاء الله ، كقوله : { إن كنتم مؤمنين } . وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول ، لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ، ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية : لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله . وقيل الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول ، لأن الدخول لم يكن فيه شك ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق بأهل لا إله إلا الله لا إلى الموت . { محلقين رؤوسكم } كلها ، { ومقصرين } بأخذ بعض شعورها ، { لا تخافون فعلم ما لم تعلموا } أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول ، وهو قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } ( الفتح-25 ) . { فجعل من دون ذلك } أي من قبل دخولكم المسجد الحرام ، { فتحاً قريباً } وهو صلح الحديبية عند الأكثرين ، وقيل : فتح خيبر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

ثم أكد الله - تعالى - صدق ما شاهد النبى - صلى الله عليه وسلم - فى رؤياه ، وبين الحكمة التى من أجلها أرسله إلى الناس كافة فقال - تعالى - : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ . . . بالله شَهِيداً } .

قال الآلوسى ما ملخصه : " رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المنام قبل خروجه إلى الحديبية ، أنه هو واصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا ، وظنوا أنهم سيدخلونها فى عامهم هذا ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق ، فلما تأخر ذلك قال بعض المنافقين - على سبيل التشكيك والاعتراض - والله ما حلقنا ولا قصرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت هذه الآية .

وقد روى عن عمر - رضى الله عنه - أنه قال نحو ذلك - على سبيل الفهم والاستكشاف - ليزداد يقينه . .

والصدق يكون بالقول ويكون بالفعل ، وما فى الآية صدق بالفعل ، وهو التحقيق ، أى حقق - سبحانه - للرسول رؤيته . .

وقوله { بالحق } صفة لمصدر محذوف ، أى : صدقا ملتبسا بالحق ، أو بمحذوف على أنه حال من الرؤيا ، أى : رؤيا ملتبسة بالحق .

والمعنى : والله لقد أرينا رسولنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة التى لا تتخلف ، ولا يحوم حولها ريب أو شك ، وحققنا له ما اشتملت عليه هذه الرؤيا من بشارات سارة ، وعطايا كريمة ، على حسب ما اقتضته حكمتنا وإرادتنا .

وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ } جواب لقسم محذوف وقوله : { آمِنِينَ } وما بعده ، حال من فاعل { لَتَدْخُلُنَّ } . . أى : والله لتدخلن - أيها المؤمنون - المسجد الحرام فى عامكم المقبل إن شاء الله ، حالة كونكم آمنين من كل فزع ، وحالة كونكم بعضكم يحلق شعر رأسه كله ، وبعضكم يكتفى بقص جزء منه ، وحالة كونكم لا تخافون أذى المشركين بعد ذلك .

وقوله : { إِن شَآءَ الله } فيه ما فيه من الإِشعار بأن الرؤيا مع صدقها ، تحقيقها موكول إلى مشيئة الله - تعالى - وغلى قدرته ، لا إلى أحد سواه ، وفيه ما فيه من تعليم الناس وإرشادهم إلى أنهم يجب عليهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه عند إرادتهم لفعل من الأفعال ، كما قال - تعالى - { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } قال بعض العلماء : " إن الله - تالى - استثنى فيما يعلم ، ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون " .

ويرى بعضهم : أن الاستثناء هنا لتحقيق الخبر وتأكيده .

استدل بعضهم بهذه الآية على أن الحلق غير متعين فى النسك ، بل يجزئ عنه التقصير ، إلا أن الحلق أفضل ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ، قال اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ، قال اللهم اغفر للمحلقين . . ثم قال بعد الثالثة : والمقصرين " .

واستدل بها - أيضا - على أن التقصير للراس دون اللحية ، ودون سائر شعر البدن ، إذ الظاهر أن المراد : ومقصرين شعر رءوسكم .

وقوله : { لاَ تَخَافُونَ } تأكيد وتقرير لقوله { آمِنِينَ } أى : آمنين عند دخولكم مكة للعمرة ولا تخافون بعد إتمامها ، لأن عناية الله - تعالى - ورعايته معكم . .

وقوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } بيان للحكمة فى تأخير دخولهم مكة عام الحديبية ، وتمكنيهم من دخولها فى العام الذى يليه .

والجملة الكريمة معطوفة على قوله : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ . . . } أى : والله لقد حقق الله - تعالى - لرسوله رؤياه فى دخول مكة ، ولكن فى الوقت الذى يشاؤه ويختاره وتقتضيه حكمته ، لأنه - تعالى - علم ما لم تعلموه أنتم من أن المصلحة فى عدم دخولكم مكة فى عام صلح الحديبية ، وأن هذا الصلح هو خير لكم من دخولها ، لما يترتب عليه من منافع كثيرة لكم ، وقد جعل - سبحانه - بفضله - وإحسانه { مِن دُونِ ذَلِكَ } أى : من قبل دخولكم مكة ، وطوافكم بالمسجد الحرام { فَتْحاً قَرِيباً } هو فتح خيبر الذى خرجتم منه بالغنائم الوفيرة ، أو فتح خيبر ومعه صلح الحديبية ، الذى قال فيه الزهرى لا فتح فى الإِسلام كان أعظم من صلح الحديبية .

هذا ، وقد بسط الإِمام ابن كثير ما أصابه المسلمون بعد صلح الحديبية من خيرات فقال ما ملخصه : " ورجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية فى ذى القعدة من السنة السادسة . . ثم خرج فى المحرم من السنة السابعة إلى خيبر ، ففتحها الله - تعالى - عليه . .

فلما كان فى ذى القعدة من السنة السابعة ، خرج إلى مكة معتمرا ، هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذى الحليفة ، وساق معه الهدى . . وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة فى قربها . فدخلها وبين يديه أصحابه يلبون ، وعبد الله بن رواحه آخذ بزمام ناقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينشد ويقول :

خلوا بنى الكفار عن سبيله . . . إنى شيهد أنه رسوله

وخرج المشركون من مكى لكى لا يروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، أما النساء والأطفال فقد جلسوا على لاطرق ينظرون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى المؤمنين .

ومكث الرسول وأصحابه بمكة ثلاثة أيام اعتمر خلالها هو وأصحابهن ثم عادوا إلى المدينة .

وهكذا تحققت رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الوقت الذى أراده - سبحانه –

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

18

ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام ؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام . فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا ، وينبئهم أنها منه ، وأنها واقعة ولا بد . وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا :

( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى )( ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا ) . .

فأما البشرى الأولى . بشرى تصديق رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخولهم المسجد الحرام آمنين ، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة ، لا يخافون . . فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد . ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية . إذ تم لهم فتح مكة ، وغلبة دين الله عليها .

ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان ؛ وهو يقول لهم : " لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - " . . فالدخول واقع حتم ، لأن الله أخبر به . ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء ، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب ، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية . والقرآن يتكئ على هذا المعنى ، ويقرر هذه الحقيقة ، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع ، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله . ووعد الله لا يخلف . ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق . إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين ، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور .

ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد ؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع - أي العام التالي لصلح الحديبية - خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية . فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي - كما أحرم وساق الهدي في العام قبله - وسار أصحابه يلبون . فلما كان [ صلى الله عليه وسلم ] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه . فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " وما ذاك ? " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى ياجج " فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء !

وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه . فدخلها [ صلى الله عليه وسلم ] وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر{[10428]} ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا ؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .

واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .

وقرأ ابن مسعود : «إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .

ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله تعالى{[10429]} بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .

واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : «نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .


[10428]:في بعض النسخ: وأخذ الناس في الصدر، والصدر هنا: الرجوع والعودة، يقال: صدر عن المكان والورود صدرا وصدرا: رجع وانصرف.
[10429]:يريد أن الله تعالى دفع بهم عن أهل مكة من الكفار، ولم يكن للمسلمين من دخول مكة رحمة بمن فيها من المؤمنين الذين لم يكونوا معروفين.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

استئناف بياني ناشىء عن قوله : { فأنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية ، أو وهو في الحديبية : كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحَلَقوا وقصَّروا . هكذا كانت الرؤيا مُجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة ، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما .

وقصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبَّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها ، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا : فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا ؟ فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية . والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنَّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم لك الرؤيا أيامئذٍ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها : أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زماناً كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زماناً حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة .

وتوكيد الخبر بحرف ( قد ) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : فأين الرؤيا ؟

ومعنى { صدق اللَّه رسوله الرؤيا } أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك . وهذا تطْمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمَّا يحصل بقرينة قوله : { إن شاء اللَّه } .

وتعدية { صدق } إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال ، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب . وأصل الكلام : صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى : { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] .

والباء في { بالحق } للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي صدقاً ملابسا الحق ، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابساً وقع حالاً من الرؤيا .

والحق : الغرض الصحيح والحكمة ، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مَجْعُولة محكمة وهي ما قدمناه آنفاً .

وجملة { لتدخلن المسجد الحرام } إلى آخرها يجوز أن يكون بياناً لجملة { صدق اللَّه } لأن معنى { لتدخلن } تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل . وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذٍ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم : إن المنام لم يكن موقتاً بوقت وأنه سيدخل . وقد جاء في سورة يوسف ( 100 ) { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } وليست هذه الجملة بياناً للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك .

والأحسن أن تكون جملة { لتدخلن المسجد الحرام } استئنافاً بيانياً عن جملة { صدق اللَّه رسوله } أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله : { بالحق } ليظهر معنى الاستئناف .

وقوله : { إن شاء اللَّه } من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخياً ، ألا ترى أن الذي يقال له : افعل كذا ، فيقول : أفعل إن شاء الله ، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله .

ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف ( 99 ) { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أنّ إن شاء اللَّه } للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر . أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل . وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد ، وهذا من استعمالات كلمة { إن شاء اللَّه } . فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذٍ للثُّنْيا لأنها في موضع قولهم : إلا أن يشاء الله ، لأن معنى : إلا أن يشاء الله : عدم الفعل ، وأما إن شاء الله ، التي تقع موقع : إلا أن يشاء الله ، فمعناه إن شاء الله الفعلَ .

والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية ، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحَلق بعضهم وقصّر بعض غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد ، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد ، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع ، وعدمُ الخوف فيه أظهر . وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين . قال مالك في « الموطأ » بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يومَ الفتح ( ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ محرماً والله أعلم ) .

و { محلقين رؤوسكم } حال من ضمير { آمنين } وعطف عليه { ومقصرين } والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير ، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير .

وجملة { لا تخافون } في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل { آمنين } تأكيداً بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق ، ويجوز أن تكون حالاً مؤسسة على أن { آمنين } معمول لفعل { تدخلُنّ } وأن { لا تخافون } معمول ل { ءامنين } ، أي آمنين أمن مَن لا يخاف ، أي لا تخافون غدراً . وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوّهم الذي أمنهم ، وهذا يُومِىءُ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعداداً وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع .

والفاء في قوله : { فعلم ما لم تعلموا } لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله : { فعلم ما في قلوبهم } [ الفتح : 18 ] .

وفي إيثار فعل { جعل } في هذا التركيب دون أن يقول : فتح لكم من دون ذلك فتحاً قريباً أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه . وصيغة الماضي في { جعل } لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي ، أو لأن { جعل } بمعنى قدر . ودون هنا بمعنى غير ، ومِن ( م ) ابتدائية أو بيانية . والمعنى : فجعل فتحاً قريباً لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين . وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح .