قوله تعالى : { ذلك } أي : الأمر ذلك ، يعني ما ذكر من أعمال الحج { ومن يعظم حرمات الله } أي معاصي الله وما نهى عنه ، وتعظيما ترك ملابسها . قال الليث : حرمات الله ما لا يحل انتهاكها . وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه ، وذهب قوم إلى أن معنى الحرمات هاهنا : المناسك ، بدلالة ما يتصل بها من الآيات . وقال ابن زيد : الحرمات هاهنا : البيت الحرام ، والبلد الحرام والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، والإحرام . { فهو خير له عند ربه } أي : تعظيم الحرمات ، خير له عند الله في الآخرة . { وأحلت لكم الأنعام } أن تأكلوها إذا ذبحتموها وهى الإبل والبقر والغنم ، { إلا ما يتلى عليكم } تحريمه ، وهو قوله في سورة المائدة : { حرمت عليكم الميتة والدم } الآية ، { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } أي : عبادتها يقول : كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي : سبب الرجس ، وهو العذاب ، والرجس : بمعنى الرجز . وقال الزجاج : ( من ) هاهنا للتجنيس أي : اجتنبوا الأوثان التي هي رجس ، { واجتنبوا قول الزور } يعني : الكذب والبهتان . وقال ابن مسعود : شهادة الزور ، وروي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال : يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ، ثم قرأ هذه الآية " . وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الذين يعظمون حرمات الله ، وعما أحله الله لعباده من الأنعام ، وعن سوء عاقبة من يشرك بالله ، فقال - تعالى - : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ . . . } .
اسم الإشارة { ذلك } فى قوله : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله . . . } يؤتى به فى مثل هذا التركيب للفصل بين كلامين ، والمشهور فى مثل هذا التركيب الإتيان بلفظ " هذا " كما فى قوله - تعالى - : { هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } وجىء هنا بلفظ ذلك للإشعار بتعظيم شأن المتحدث عنه ، وعلو منزلته ، وهو يعود إلى المذكور من تهيئة مكان البيت لإبراهيم ، وأمره بتطهيره . . . . الخ .
قال صاحب الكشاف : قوله { ذلك } خبر مبتدأ محذوف أى : الأمر والشأن ذلك ، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه فى بعض المعانى ، ثم إذا أراد الخوض فى معنى آخر قال : هذا ، وقد كان كذا .
والحرمات : جمع حرمة . والحرمة كل ما أمر الله - تعالى - باحترامه ، ونهى عن قوله أو فعله ، ويدخل فى ذلك دخولا أوليا ما يتعلق بمناسك الحج كتحريم الرفث والفسوق والجدال والصيد ، وتعظيم هذه الحرمات يكون بالعلم بوجوب مراعاتها ، وبالعمل بمقتضى هذا العلم .
والمعنى : ذلك الذى ذكرناه لكم عن البيت الحرام وعن مناسك الحج ، هو جانب من أحكام الله - تعالى - فى هذا الشأن فاتبعوها ، والحال أن من يعظم حرمات الله - تعالى - بأن يترك ملابستها واقترافها ، فهو أى : هذا التعظيم ، خير له عند ربه ، إذ بسبب هذا التعظيم لتلك الحرمات ينال رضا ربه وثوابه .
وقد جاء النهى فى هذه الجملة عن فعل هذه المحرمات بأبلغ أسلوب حيث عبر عن اجتنابها بالتعظيم وبأفعل التفضيل وهو لفظ " خير " وبإضافتها إلى ذاته .
فكأنه - سبحانه - يقول : إذا كان ترك هذا التعظيم لحرمات الله يؤدى إلى حصولكم على شىء من المتاع الدنيوى الزائل ، فإن الاستمساك بهذا التعظيم أفضل من ذلك بكثير عند ربكم وخالقكم ، فكونوا عقلاء ولا تستبدلوا الذى هو أدنى بالذى هو خير .
ثم بين - سبحانه - بعض الأحكام التى تتعلق بالأنعام وهى الإبل والبقر والغنم فقال : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } .
أى : وأحل الله - تعالى - لكم فضلا منه ورحمة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما يتلى عليكم تحريم ذبح وأكله فاجتنبوه .
وهذا الإجمال هنا ، قد جاء ما فصله قبل ذلك فى سورة الأنعام فى قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } قال بعض العلماء : ثم إنه ليس المقصود بما يتلى ، ما ينزل فى المستقبل ، كما يعطيه ظاهر الفعل المضارع ، بل المراد ما سبق نزوله مما يدل على حرمة الميتة وما أهل لغير الله به .
أو ما يدل على حرمة الصيد فى الحرم أو حالة الإحرام .
وعلى هذا يكون السر فى التعبير بالمضارع ، التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغى استحضاره والالتفات إليه . . . والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع فى الوهم من أن تعظيم حرمات الله فى الحج قد يقضى باجتناب الأنعام ، كما قضى باجتناب الصيد .
ثم أمرهم - سبحانه - باجتناب ما يغضبه ، وحضهم على الثبات على الدين الحق فقال - تعالى - : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } والفاء فى قوله : { فاجتنبوا } هى الفصيحة . والرجس : الشىء المستقذر الذى تعافه النفوس . و { مَن } فى قوله { مِنَ الأوثان } بيانية ، والأوثان : الأصنام ، يدخل فى حكمها ومعناها عبادة كل معبود من دون الله - تعالى كائنا من كان .
وسماها - سبحانه - رجسا ، زيادة فى تقبيحها وفى التنفير منها .
والزور : الكذب والباطل وكل قول مائل عن الحق فهو زور ، لأن أصل المادة التى هى الزور من الزورار بمعن الميل والاعوجاج ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين } أى : تميل .
وقوله { حُنَفَآءَ } جمع حنيف وهو المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق .
والمعنى : مادام الأمر كما ذكرت لكم ، فاجتنبوا - أيها الناس عبادة الأوثان أو تعظيمها ، واجتنبوا - أيضا - القول المائل عن الحق ، وليكن شأنكم وحالكم الثبات على الدين الحق ، وعلى إخلاص العبادة لله - تعالى - الذى خلقكم ، وخلق كل شىء .
وهذه الجملة الكريمة مؤكدة لما سبق من وجوب تعظيم حرمات الله ، ومن وجوب التمسك بما أحله الله والبعد عما حرمه .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { واجتنبوا قَوْلَ الزور } تعميم بعد تخصيص ، فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، لما فيها من ادعاء الاستحقاق ، كأنه - تعالى - لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما ، والافتراء على الله - تعالى - بأنه حكم بذلك . ولم يعطف قول الزور على الرجس ، بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء . والإضافة بيانية . . .
تلك قصة بناء البيت الحرام . وذلك أساسه الذي قام عليه . . بيت أمر الله خليله إبراهيم - عليه السلام - بإقامته على التوحيد ، وتطهيره من الشرك ، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه . ليذكروا اسم الله - لا أسماء الآلهة المدعاة - على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . ويأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير على اسم الله دون سواه . . فهو بيت حرام حرمات الله فيه مصونة - وأولها عقيدة التوحيد ، وفتح أبوابه للطائفين والقائمين والركع السجود - إلى جانب حرمة الدماء ، وحرمة العهود والمواثيق . وحرمة الهدنة والسلام .
( ذلك . ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه . وأحلت لكم الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ، حنفاء لله غير مشركين به . ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) . .
وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من المساس بها . وذلك خير عند الله . خير في عالم الضمير والمشاعر ، وخير في عالم الحياة والواقع . فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر والحياة التي ترعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء ، ويجدون فيها متابة أمن ، وواحة سلام ، ومنطقة اطمئنان . .
ولما كان المشركون يحرمون بعض الأنعام - كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي - فيجعلون لها حرمة ، وهي ليست من حرمات الله بينما هم يعتدون على حرمات الله - فإن النص يتحدث عن حل الأنعام إلا ما حرم الله منها - كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به : ( وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) . وذلك كي لا تكون هنالك حرمات إلا لله ؛ وألا يشرع أحد إلا بإذن الله ؛ ولا يحكم إلا بشريعة الله .
وبمناسبة حل الأنعام يأمر باجتناب الرجس من الأوثان . وقد كان المشركون يذبحون عليها وهي رجس - والرجس دنس النفس - والشرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب ، ويشوب نقاءها وطهارتها كما تشوب النجاسة الثوب والمكان .
ولأن الشرك افتراء على الله وزور ، فإنه يحذر من قول الزور كافة : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) . .
{ ذلك } خبر محذوف أي المر ذلك وهو وأمثاله تطلق لفصل بين كلامين . { ومن يعظم حرمات الله } أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه ، أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف . وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم ف { هو خير له } فالتعظيم { خير له } . { عند ربه } ثوابا . { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } إلا المتلو عليكم تحريمه ، وهو ما حرم منها لعارض : كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تحرموا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة . { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس ، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها . { واجتنبوا قول الزور } تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك . وقيل شهادة الزور لم روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثا وتلا هذه الآية " . و{ الزور } من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك من الإفك وهو الصرف ، فإن الكذب منحرف عن الواقع .
{ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ }
اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد ، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده . فالإشارة مرادٌ بها التنبيه ، وذلك حيث يكون ما بعده غيرَ صالح لوقوعه خبراً عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى : ذلك بيانٌ ، أو ذكرٌ ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال . والمشهور في هذا الاستعمال لفظ ( هذا ) كما في قوله تعالى : { هذا وإن للطاغين لشر مئاب } [ ص : 55 ] وقولِ زهير :
هَذا وليس كمن يَعْيَا بخطبته *** وسْط النّدي إذا ما قائل نَطقا
وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله .
فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره ، أي ذلك بيان ونحوه . وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر ، قال : هذا وقد كان كذا وكذا .
وجملة { ومن يعظم } الخ . . . معترضة عطفاً على جملة { وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت } [ الحج : 26 ] عطف الغرض على الغرض . وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بُنِي على أساسها .
وضمير { فهو } عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل { ومن يعظم حرمات الله } . والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيهاً لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتَها ، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر . فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم ، أي قبل فتح مكة .
والحُرمات : جمع حُرُمة بضمتين : وهي ما يجب احترامه .
والاحترام : اعتبار الشيء ذَا حَرَم ، كناية عن عدم الدخول فيه . أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه ، والحُرمات يشمل كل ما أوصَى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها .
وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : المسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمُحرم ما دام محرماً ، فقصَرَه على الذوات دون الأعمال . والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ ، كالغسل في مواقعه ، والحلق ومواقيته ومناسكه .
{ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور }
لما ذكر آنفاً بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل : البَحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحَامي وبعضضِ ما في بطونها . وقد ذكر في سورة الأنعام .
واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في [ سورة الأنعام : 145 ] في قوله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان .
وجيء بالمضارع في قوله : { إلا ما يتلى عليكم } ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزولَ سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى ، ويشمل ما عسى أن يَنزل من بعد مثل قوله : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } الآية في [ سورة العقود : 103 ] .
والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله : { يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله ، وهو الأوثان .
واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات { هذا حلال } مثل الدم وما أهلّ لغير الله به ، وقولهم لبعض : هذا حرام مثل البَحيرة ، والسائبة . قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } [ النحل : 116 ] .
والرّجس : حقيقته الخبث والقذارة ، وتقدم في قوله تعالى : { فإنه رجس } في [ سورة الأنعام : 145 ] .
ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ .
و ( مِن ) في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس ، فهي تدخل على بعض أسماء التمييز بياناً للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى ( من ) البيانية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك ومن يعظم حرمات الله} يعني: أمر المناسك كلها {فهو خير له عند ربه} في الآخرة.
{وأحلت لكم} بهيمة {الأنعام} التي حرموا للآلهة في سورة الأنعام {إلا ما يتلى عليكم} من التحريم في أول سورة المائدة.
{فاجتنبوا الرجس من الأوثان} فيها تقديم يقول: اتقوا عبادة اللات والعزى ومناة، وهي الأوثان {واجتنبوا قول الزور}، يقول: اتقوا الكذب، وهو الشرك...
عن مقاتل، عن محمد بن علي، في قوله تعالى: {واجتنبوا قول الزور} قال: الكذب وهو الشرك في التلبية، وذلك أن الحمس قريش، وخزاعة، وكنانة، وعامر بن صعصعة، في الجاهلية كانوا يقولون في التلبية: لبيك اللهم لبيك، ليبك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، يعنون الملائكة التي تعبد، هذا هو قول الزور لقولهم: إلا شريكا هو لك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله "ذلكَ": هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت العتيق، هو الفرض الواجب عليكم يا أيها الناس في حجكم. "وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْد رَبّهِ "يقول: ومن يجتنب ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها وحُرَمه أن يستحلها، فهو خير له عند ربه في الآخرة...
وقوله: "وأُحِلّتْ لَكُمُ الأَنْعامُ" يقول جلّ ثناؤه: وأحلّ الله لكم أيها الناس الأنعام أن تأكلوها إذا ذكّيتموها، فلم يحرّم عليكم منها بحيرة، ولا سائبة، ولا وَصِيلة، ولا حاما، ولا ما جعلتموه منها لآلهتكم.
"إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ" يقول: إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله، وذلك: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذُبح على النّصب فإن ذلك كله رجس... وقوله: "فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانٍ" يقول: فاتقوا عبادة الأوثان، وطاعة الشيطان في عبادتها فإنها رجس...
وقوله: "وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ" يقول تعالى ذكره: واتقوا قول الكذب والفرية على الله بقولكم في الآلهة: "ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى"، وقولكم للملائكة: هي بنات الله، ونحو ذلك من القول، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله...
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن سفيان العُصفريّ، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال: «أيّها النّاسُ عُدِلَتْ شَهادَةُ الزّورِ بالشّرْكِ باللّهِ» مرّتين. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ.
ويجوز أن يكون مرادا به: اجتنبوا أن ترجسوا أنتم أيها الناس من الأوثان بعبادتكم إياها.
فإن قال قائل: وهل من الأوثان ما ليس برجس حتى قيل: فاجتنبوا الرجس منها؟ قيل: كلها رجس. وليس المعنى ما ذهبت إليه في ذلك، وإنما معنى الكلام: فاجتنبوا الرجس الذي يكون من الأوثان أي عبادتها، فالذي أمر جلّ ثناؤه بقوله: "فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ" منها اتقاء عبادتها، وتلك العبادة هي الرجس على ما قاله ابن عباس ومن ذكرنا قوله قبل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأنه قال: {ومن يعظم حرمات الله} وخرج للحج، وأنفق المال، وأتعب النفس في ما له عند ربه من الثواب، فذلك خير له من حفظ ماله وحفظ نفسه. وإلا فلا شك أن من يعظم حرمات الله خير له ممن لم يعظمها...
{واجتنبوا قول الزور} ويحتمل الزور الذي قالوا في الله من الولد والشريك وما لا يليق به.
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} يعني: اجتنبوا تعظيم الأوثان فلا تعظِّمُوها واجتنبوا الذبائح لها على ما كان يفعله المشركون؛ وسماها رِجْساً استقذاراً لها واستخفافاً بها؛ وإنما أمرهم باستقذارها لأن المشركين كانوا ينحرون عليها هداياهم ويصبُّون عليها الدماء وكانوا مع هذه النجاسات يعظّمونها، فنَهَى الله المسلمين عن تعظيمها وعبادتها وسمّاها رجساً لقذارتها ونجاستها من الوجوه التي ذكرنا قال الله عز وجل: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}. والزور الكذب، وذلك عامٌّ في سائر وجوه الكذب، وأعظَمُها الكفر بالله والكذب على الله عز وجل..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تعظيم الحرمات بتعظيم أمره؛ وتعظيمُ أمرِهِ بِتَرْكِ مخالفته... ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه وما فَجَرَ صاحبُ حُرْمَةٍ قط.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ومن يعظم حرمات الله} فرائض الله وسننه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه، وذهب قوم إلى أن معنى الحرمات هاهنا: المناسك، بدلالة ما يتصل بها من الآيات...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
(ومن يعظم حرمات الله)] والحرمة: ما لا يحل هتكه. وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج...
[(فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور... لما حثّ على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور؛ لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطواً. وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد، وذلك أن الشرك من باب الزور لأن المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة، فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئاً منه لتماديه في القبح والسماجة. وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجساً وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعني: أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله: {رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الزور} مشتق من الزور وهو الميل، ومنه في جانب فلان زور، ويظهر أن الإشارة في زور أقوالهم في تحريم وتحليل مما كانوا قد شرعوه في الأنعام.
وقوله: {عند ربه} يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات. قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك،
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرمات و [اجتناب] المحظورات...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{ذَلِكَ} الذي ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها وتكريمها، لأن تعظيم حرمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظمها وأجلها، أثابه الله ثوابا جزيلا، وكانت خيرا له في دينه، ودنياه وأخراه عند ربه. وحرمات الله: كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل،ثم ذكر منته وإحسانه بما أحله لعباده، من بهيمة الأنعام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من المساس بها. وذلك خير عند الله. خير في عالم الضمير والمشاعر، وخير في عالم الحياة والواقع. فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر والحياة التي ترعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، ويجدون فيها متابة أمن، وواحة سلام، ومنطقة اطمئنان...
والشرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب، ويشوب نقاءها وطهارتها كما تشوب النجاسة الثوب والمكان...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد ذكر الحرمات مضافة إلى ذي العزة والجلال حضا على صيانتها وتكريمها ومراعاتها حق رعايتها، وأحل ما أحل وحرم ما حرم، وإن الحج لا يكون خيرا إلا إذا طهرت النفوس من الآثام واتجهت إلى الديان وحده لا شريك له...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} وهي الدوائر التشريعية التي أحاطها الله بنواهيه، أو المواقع التي أراد الله من الناس احترامها، فلا يتجاوزون الحدود التي كلفهم بالوقوف عندها، في ما تستدعيه الطاعة من خضوع لأمر الله ونهيه تعبيراً عن العبودية، لأن تعظيم هذه الحرمات يمثل تعظيماً عملياً لله ينال به الإنسان الدرجات الرفيعة عنده نتيجة القرب منه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} في ما يعنيه الخير من النجاح والفلاح والسعادة والفوز في الدارين، لأن الأفعال المؤثرة إيجاباً على مستوى قضية المصير، هي التي تبقى وتخلد، وتعمّق في نفس الإنسان وحياته الطمأنينة الروحية والعملية على كل صعيد.. أمَّا الانحراف عن خط الله، والتمرّد على إرادته، فإنه قد يحقق له بعض المكاسب واللذات، وقد يجلب بعض الفرح الداخلي، ولكنه لا يلبث أن يتحول إلى حزن دائمٍ، وقلق عميق، بسبب النتائج السلبية التي يتركها على مستوى الدنيا والآخرة.. وقد نلاحظ أنَّ الله قد أطلق الخير في الآية، ولم يجعله متعلقاً بشيء محدد، للإيحاء بأن تعظيم الله بتعظيم حرماته، يحمل الخير كل الخير للإنسان، لأنه يمثل الخير الباقي عند الله، لأن ما عندنا ينفد، وما عند الله باق...
{وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ}، الذي يمثل الباطل في الفكر والعاطفة والحياة، والذي يتحوّل إلى انحراف في الخط العملي للإنسان، لأن الكلمة تعني الموقف، في ما تعبر عنه من حركة الموقف في الداخل وفي الخارج، ولذلك فإنها قد تترك تأثيراً سلبياً على مجمل الواقع من حولها، فتشوّه صورته، وتزيّف معانيه، وتنحرف به إلى اتجاه آخر، يضيع الحقوق إذا تحوّل إلى موقف شهادة زور، ويبدل صورة الحقيقة في حركة الواقع إذا تمثل في كلمة كذب في حياة الناس، ويثير المشاعر القلقة الهائجة في مواقع الغريزة إذا انطلق في أجواء الفحش والانحلال... إنها الدعوة إلى الابتعاد عن كلمة الباطل باعتبار أنها ضد كلمة الحق التي جاءت الرسالات من أجل تأكيد الدعوة للاقتراب منها، أو الالتزام بها، والالتصاق بمعانيها والانفعال بإيحاءاتها ومشاعرها، في الجوّ والحركة والموقف...