قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } . قيل : أراد به العرب لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني تغلب دليله ، قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ) . وقال الآخرون : أراد به جميع المؤمنين ، ومعنى قوله تعالى ( من أنفسهم ) أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب ، دليله قوله تعالى ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) .
قوله تعالى : { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا } . وقد كانوا .
وبعد أن نزه الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص ، وبين أن الناس متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم .
وبعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله - سبحانه - على عباده فى أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال - تعالى - : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .
قال الرازى : قال الواحدى : " لمن فى كلام العرب معان :
أحدها : الذى يسقط من السماء ، وهو قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } وثانيها : أن تمن بما أعطيت كما فى قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } وثالثها : القطع كما فى قوله { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه - وهو المراد هنا " .
والمعنى : لقد أنعم الله على المؤمنين ، وأحسن إليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر ، هو من العرب أنفسهم ، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى من نفس العرب ، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب ، وقد بعثه الله عربيا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته .
ويصح أن يكون معنى قوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة ، ليخرج الناس - العربى منهم وغير العربى - من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ، وجعل رسالته عامة فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وخص الله - تعالى - منته وفضله بالمؤمنين ، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإسلام ، الذى لن يقبل الله دينا سواه والذى جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام .
والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير : والله { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } .
والتلاوة : هى القراءة المتتابعة المرتلة التى يكون بعضها تلو بعض .
والتزكية : هى التطهير والتنقية .
أى لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى ، لأنه قد بعث فيهم رسلا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التى أنزلها لهدايتهم وسعادتهم ، { وَيُزَكِّيهِمْ } أى يطهرهم من الكفر والذنوب . أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية ، والاعتقادات الفاسدة .
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } بأن يبين لهم المقاصد التى من أجلها نزل القرآن الكريم ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التى قدى تخفى على مداركهم .
فتعليم الكتاب غير تلاوته : لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب .
ويعلمهم كذلك { الحكمة } أى الفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التى يكمل بها العلم بالكتاب .
وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التى منحها الله تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم بين - سبحانه - حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } .
أى : إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فى ضلال بين واضح لا يخفى أمره لعى أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة .
وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام الذى جاء به صلى الله عليه وسلم من عند ربه فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى ، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئاً مألوفا ، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل فى كثير من شئونهم .
والخلاصة أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل ، كانت قد استشرت فى العالم بصورة لا تخفى على عاقل .
فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل : شخص الرسول [ ص ] ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين .
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الرسول [ ص ] وقيمتها الذاتية ، وعظم المنة الإلهية بها ، ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها ، ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة . . إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة :
إنها تجيء ابتداء تعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول ، والانشغال بهذا الأمر الصغير ، الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة ، وبدل النصر هزيمة ، وفعل بالمسلمين الأفاعيل . فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة ، والمنة العظيمة المتمثلة فيها ، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة . تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها ، وأسلاب الأرض كلها ، وإعراض الأرض كلها ، شيئا تافها زهيدا ، لا يذكر ولا يقدر . شيئا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره ، بل تستحي أن تفكر فيه ! فضلا عن أن تشغل به !
وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة . . فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة ، وما تمثله من منة عظيمة ، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة ، تصغر في ظلها الآلام والخسائر ، وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات . على حين تعظم المنة ، ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق .
ثم . . الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة ( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . . وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع ، ومن عهد إلى عهد . فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض ، وفي حياة البشر ، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول [ ص ] فما ينبغي لأمة هذا شأنها ، أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم ، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام ، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة . .
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق . نذكرها باختصار وإجمال ، لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال :
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) . .
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولا ، وأن يكون هذا الرسول ( من أنفسهم ) . . إن العناية من الله الجليل ، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه ، هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي . المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر . وإلا فمن هم هؤلاء الناس ، ومن هم هؤلاء الخلق ، حتى يذكرهم الله هذا الذكر ، ويعنى بهم هذه العناية ؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم ، أن يرسل لهم رسولا من عنده ، يحدثهم بآياته - سبحانه - وكلماته ، لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب ، ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل ؟
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول " من أنفسهم " . . لم يقل " منهم " فإن للتعبير القرآني " من أنفسهم " ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة . . إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس ، لا صلة الفرد بالجنس .
فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى . إنما هي أعمق من ذلك وأرقى . ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله . فهو منة على المؤمنين . . فالمنة مضاعفة ، ممثلة في إرسال الرسول ، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب .
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية . . في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني :
( يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . .
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها . في تكريم الله لهم . بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل :
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله ، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة !
ولو تأمل أن الله الجليل - سبحانه - يتكرم عليه ، فيخاطبه بكلماته . يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته ؛ وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها . ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو - هو الإنسان - هو العبد الصغير الضئيل - وعن حياته ، وعن خوالجه ، وعن حركاته وسكناته . يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه ، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة ، وهذا التفضل ، وهذا العطاء ؟
إن الله الجليل غني عن العالمين . وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج . . ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ، ويتلمسه بعنايته ، ويتابعه بدعوته ! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته ! فيا للكرم ! ويا للمنة ! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء !
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم . يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم . ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم . ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم . . يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة ، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته . . ويطهرم من دنس الحياة الجاهلية ، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم .
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها ، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها .
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه ، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده . . يقول جعفر :
" أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . .
ومن أرجاسها ما حكته عائشة - رضي الله عنها - وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري ، في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية :
" إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء . فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ، ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ! ويعتزلها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة ، فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت . فهو إبنك يا فلان . تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها . ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل ! والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير ، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا ، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما - فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ، ودعوا لهم القافة ، ثم الحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعي إبنه ، لا يمتنع من ذلك ! " . .
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق . ويكفي تصور الرجل ، وهو يرسل امرأته إلى " فلان " لتأتي له منه بولد نجيب . تماما كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب ، لتأتي له منه بنتاج جيد !
ويكفي تصور الرجال - ما دون العشرة ! - يدخلون إلى المرأة مجتمعين - " كلهم يصيبها ! " . . ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها !
أما البغاء - وهو الصورة الرابعة - فهو البغاء ! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة ! لا يجد في ذلك معرة ! ولا يمتنع من ذلك !
إنه الوحل . الذي طهر الإسلام منه العرب . وزكاهم . وكانوا - لولا الإسلام - غارقين إلى الأذقان فيه !
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفا من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية . يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :
" وكانت المرأة في المجتمع الجالهي عرضة غبن وحيف ، تؤكل حقوقها ، وتبتز أموالها ، وتحرم من إرثها ، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة عن ابن عباس قال : " كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه ، فهو أحق بامرأته ، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتىتفتدى بصداقها ، أو تموت فيذهب بمالها " . . وقال عطاء بن رباح . . " إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل ، فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم " . . وقال السدي : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو إبنه ، فإذا مات وترك امرأته ، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه ، أو ينكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها " . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل ، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها ، يؤخذ مما تؤتي من مهر ، وتمسك ضرارا للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزا أو إعراضا ، وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد .
" وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة ، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام ، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء [ سوداء ] أو برشاء [ برصاء ] أو كسحاء [ عرجاء ] تشاؤما منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر . .
" وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان ، فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله ، فلا يئدها إلا وقد كبرت ، وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق " . .
ومن أرجاسها - وأصل هذه الأرجاس جميعا - الشرك والوثنية الهابطة الساذجة : كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه :
" انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها . فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة ، صنم خاص ، بل كان لكل بيت صنم خصوصي . قال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ، فإذا أراد أحدهم السفر ، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا " . واستهترت العرب في عبادة الأصنام ، فمنهم من اتخذ بيتا ، ومنهم من اتخذ صنما ؛ ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم ، وامام غيره مما استحسن ، ثم طاف به كطوافه بالبيت ، وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة - البيت الذي بني لعبادة الله وحده - وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنما . وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة . روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو خيرا منه القيناه وأخذنا الآخر ؛ فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به . وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا ، أخذ أربعة أحجار ، فنظر إلى أحسنها ، فاتخذه ربا ، وجعل ثلاث أثافي لقدره ، وإذاارتحل تركه .
" وكان للعرب - شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان - آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب . فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ، ويعبدونهم ، ويتوسلون بهم عند الله . واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله ، وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم ، وعبدوهم . قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . وقال صاعد : كانت حمير تعبد الشمس . وكنانة القمر . وتميم الدبران . ولخم وجذام المشتري . وطي سهيلا . وقيس الشعري العبور . وأسد عطاردا " .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية ، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة ! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم ، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء . ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية ، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم ! ومن مفاخراتهم في أسواقهم ! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة ، التي تشغل اهتماماتهم ، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة :
" هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر . فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب إبني وائل ، ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة ، وما ذاك إلا أن كليبا رئيس معد ، رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها ؛ وقتل جساس بن مرة كليبا ، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب . وكانت كما قال المهلهل أخو كليب : " قد فني الحياة ، وثكلت الأمهات ، ويتم الأولاد . دموع لا ترقأ ، وأجساد لا تدفن " .
" وكذلك حرب داحس والغبراء . فما كان سببها إلا أن داحسا فرس قيس بن زهير ، كان سابقا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر ، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة ، فلطم وجهه وشغله ، ففاتته الخيل . وتلا ذلك قتل ، ثم أخذ بالثأر . ونصر القبائل لأبنائها ، وأسر ، ونزح للقبائل ، وقتل في ذلك ألوف من الناس " .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة ، التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة . إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ، ولا فكرة للبشرية ، ولا دور للإنسانية ، يشغلهم عن هذا السفساف . . ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة . . وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية ؟ ماذا تكون اهتماماتهم ؟ وماذا تكون تصوراتهم ؟ وماذا تكون أخلاقهم ؟
إن الجاهلية هي الجاهلية . ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها . لا يهم موقعها من الزمان والمكان . فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ، ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة - تحكم حياتهم ، فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة . . والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها ، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض ، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها .
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير ! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها . ومسابقات جمالها ، ومراقصها ، وحاناتها . وإذاعاتها . ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري ، والأوضاع المثيرة ، والإيحاءات المريضة ، في الأدب والفن واجهزة الإعلام كلها . . إلى جانب نظامها الربوي ، وما يكمن وراءه من سعار للمال ، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره ، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون . . وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي ، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت ، وكل نظام ، وكل تجمع إنساني . . نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية .
إن البشرية تتآكل إنسانيتها ، وتتحلل آدميتها ، وهي تلهث وراء الحيوان ، ومثيرات الحيوان ، لتلحق بعالمه الهابط ! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر . لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع ، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة ، ومن نظام العقيدة ، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها ، والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة :
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . .
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا . أمية القلم ، وأمية العقل سواء . وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة ، في أي باب من الأبواب . وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشىء معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب . فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا ، وحكماء العالم ، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي ، الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان . والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن الله - لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة ، التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة ؛ من النواحي الأخلاقية والاجتماعية ؛ وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك ! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي ، والرخاء الحضاري !
( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) .
ضلال في التصور والاعتقاد ، وضلال في مفهومات الحياة ، وضلال في الغاية والاتجاه ، وضلال في العادات والسلوك ، وضلال في الأنظمة والأوضاع ، وضلال في المجتمع والأخلاق . .
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك - ماضي حياتهم وأوضاعهم ، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام ، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام ؛ وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي نقلهم من طور القبيلة ، واهتمامات القبيلة ، وثارات القبيلة ، لا ليكونوا أمة فحسب . ولكن ليكونوا - على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن - أمة تقود البشرية ، وترسم لها مثلها ، ومناهج حياتها ، وأنظمتها كذلك ، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي منحهم وجودهم القومي ، ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي . . وقبل كل شيء وأهم من كل شيء . . وجودهم الإنساني ، الذي يرفع إنسانيتهم ، ويكرمآدميتهم ، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم ، الذي جاءهم هدية ومنه من لدن ربهم الكريم . والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك ، وعلموها كيف تحترم " الإنسان " وتكرمه بتكريم الله . غير مسبوقين في هذا ، لا في الجزيرة العربية ، ولا في أي مكان . . وفي اللفتة السابقة إلى " الشورى " طرف من هذا المنهج الإلهي ، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله .
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعامل ، ونظرية للحياة البشرية ، ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية . . والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب ، تقدمه للبشرية ، لتدفع بالبشرية إلى الإمام .
وقد كان الإسلام ، وتصوره للوجود ، ورأيه في الحياة ، وشريعته للمجتمع ، وتنظيمه للحياة البشرية ، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله " الإنسان " . . كان الإسلام بخصائصه هذه هو " بطاقة الشخصية " التي تقدم بها العرب للعالم ، فعرفهم ، واحترمهم ، وسلمهم القيادة .
وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة . ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم . وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم ؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا - كما كانوا - لا يعرفهم أحد ، ولا يعترف بهم أحد !
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة ؟
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم ؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول . والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة . وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة !
يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق ، تنحني له الجباه ، ويغرقون به أسواقها ، ويغطون به على ما عندها من انتاج ؟ ؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة ، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار !
يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية ، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم ، ومن وحي أفكارهم البشرية ؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية . وتشقى بها جميعا غاية الشقاء !
ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به ، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز ؟
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة . لا شيء إلا هذا المنهج الفريد . لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها ، وأكرمهم بها ، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم . والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها ، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس !
إنها - وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية ، فأحنت لها هامتها . والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم ، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ .
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة . وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة . وهي التي تقدم أكبر منهج . وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة .
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء ، وغيرهم من الشعوب هم شركاء - فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم ؟ أي شيطان ؟ !
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة . وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان . . وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان !
{ لقد من الله على المؤمنين } أنعم على من آمن مع الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها . وقرئ " لمن من الله " على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه . { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } من نسبهم ، أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به . وقرئ من { أنفسهم } أي من أشرفهم لأنه عليه السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم . { يتلو عليهم آياته } أي القرآن بعدما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحي . { ويزكيهم } يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال . { ويعلمهم الكتاب والحكمة } أي القرآن والسنة . { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في ضلال ظاهر .
استئناف لتذكير رِجال يومِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم . ومناسبةُ ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً ، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم ، وله مزيد ارتباط بقوله : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] ، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أُحُد ناشئاً بعضها عن بعض ، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرصُ الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طَلْقاً في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحاً إلى مُنْبَعثه .
والمنّ هنا : إسداء المِنّة أي النِّعمة ، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى } في سورة [ البقرة : 264 ] ، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر . والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه ، وطوْل الله ليس بمجحود .
والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الَّذين كانوا مع النَّبيء بقرينة السياق وهو قوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أي من أمَّتهم العربية .
و ( إذ ) ظرف ل ( مَنّ ) لأنّ الإنعام بهذه النِّعمة حصل أوقات البعث .
ومعنى { من أنفسهم } المماثلةُ لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوّة التواصل ، وهي هنا النسب ، واللغة ، والوطن . والعرب تقول : فلان من بني فلان من أنفسهم ، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بوَلاء أو لصق ، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة ، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربياً يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه ، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به ، وكونه جاراً لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته ، إذ يكونون قد خبَروا أمره ، وعلموا فضله ، وشاهدوا استقامته ومعجزاته . وعن النقاش : قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تغْلِب ، وبذلك فسّر : « قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى » . وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم ، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر ، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم ، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة ، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر ، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة ، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها ، إذ لم يَفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي ، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين .
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " من دخل في الإسلام فهو من العرب " .
وقوله : { يتلوا عليهم آياتيه } أي يقرأ عليهم القرآن ، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى ، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان .
والتزكية : التطهير ، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام .
وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرُهم بحفظ ألفاظه ، لتكون معانيه حاضرة عندهم .
والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام ، وذلك من معنى الحكمة ، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] .
وعطفُ الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه ، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام : " لا يُلدَغُ المؤمن من جحر مرّتين " وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فَرْض الصلاة والحجّ .
وجملة { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } حال ، وإنْ مخففة مهملة ، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف ، والجملة خبره على رأي صاحب « الكشاف » ، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها ، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسماً هو ضمير الشأن ، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة ، وقال جمهور النحاة : يبطل عملها وتكون بعدها جملة ، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمَّا اسمية ، أو فعلية فعلها من النواسخ غالباً .
ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هُدى ، أو شبهة ، فكان حاله مبيّناً كونَه ضلالاً كقوله : { وقالوا هذا سحر مبين } [ النمل : 13 ] .
والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية .
ويجوز أن يشمل قوله : { على المؤمنين } المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر . ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي ، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة .